موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الخامِسُ والعِشرونَ: ما يُعافُ في العاداتِ يُكرَهُ في العِباداتِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "ما يُعافُ في العاداتِ يُكرَهُ في العِباداتِ " [1534] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للمقري (1/233)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/117)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (1/61)، ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (1/201). ، وصيغةِ: "المُستَقذَرُ شَرعًا كالمُستَقذَرِ حِسًّا" [1535] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للمقري (1/229)، ((موسوعة أحكام الطهارة)) للدبيان (1/147). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
ما يُعافُ: أي: ما يُكرَهُ، فما كان في العادةِ مَكروهًا فهو مَكروهٌ أيضًا في العِباداتِ؛ لأنَّ العِباداتِ إنَّما شُرِعَت لمَصلحةِ البَشَرِ، والعاداتُ إنَّما شُرِعَت وانتَشَرَت بَينَ النَّاسِ وعَمِلوا بها واعتَمَدوها لِما فيها مِن مَصلحةٍ لهم، فإذا وُجِدَ شَيءٌ كَرِهَه النَّاسُ في عاداتِهم فهو أيضًا مَكروهٌ في عِباداتِهم؛ لِما بَينَ العاداتِ والعِباداتِ مِن جامِعٍ، وهو المَصلحةُ المُشتَرَكةُ.
وهذه القاعِدةُ تُؤَكِّدُ مَقصَدًا مِن مَقاصِدِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، وهو مَقصَدُ التَّحسينيَّاتِ، وهيَ: الأخذُ بما يَليقُ مِن مَحاسِنِ العاداتِ، وتجَنُّبُ المُدَنّساتِ التي تَأنَفُها العُقولُ الرَّاجِحاتُ، ويَجمَعُ ذلك قِسمُ مَكارِمِ الأخلاقِ.
ففي العِباداتِ: كَإزالةِ النَّجاسةِ -وبالجُملةِ الطَّهاراتُ كُلُّها- وسَترِ العَورةِ، وأخذِ الزِّينةِ، والتَّقَرُّبِ بنَوافِلِ الخَيراتِ مِنَ الصَّدَقاتِ والقُرُباتِ. وفي العاداتِ: كَآدابِ الأكلِ والشُّربِ، ومُجانَبةِ المَآكِلِ النَّجِساتِ والمَشارِبِ المُستَخبَثاتِ، والإسرافِ والإقتارِ في المُتَناوَلاتِ. وفي المُعامَلاتِ: كالمَنعِ مِن بَيعِ النَّجاساتِ. فهذه الأُمورُ راجِعةٌ إلى مَحاسِنَ زائِدةٍ على أصلِ المَصالِحِ الضَّروريَّةِ والحاجيَّةِ، وقد جَرَت مَجرى التَّحسينِ والتَّزيينِ.
ومَضمونُ هذه القاعِدةِ أنَّ العَبدَ يَنبَغي أن يوقِعَ العِباداتِ لرَبِّه على أحسَنِ وَجهٍ وأكمَلِه؛ فإنَّ مَن أنصَفَ نَفسَه وعَرَف أعمالَه، استَحيا مِنَ اللهِ أن يواجِهَه بعَمَلِه أو يَرضاه لرَبِّه، وهو يَعلَمُ مِن نَفسِه أنَّه لو عَمِل لمَحبوبٍ له مِنَ النَّاسِ لبَذَل فيه نُصحَه، ولم يَدَعْ مِن حُسنِه شَيئًا إلَّا فعَلَه.
ويَنبَغي أن يُعلَمَ أنَّ العادةَ التي يُعافُ فيها ويُكرَهُ في العِباداتِ هيَ العادةُ الصَّحيحةُ المَقبولةُ التي لا تَعارُضَ بَينَها وبَينَ الشَّريعةِ، وأمَّا العاداتُ الفاسِدةُ فليسَ ما يُعافُ فيها يَكونُ مَكروهًا في العِباداتِ، بَل رُبَّما انتَشَرَ بَينَ النَّاسِ عاداتٌ مُحَرَّمةٌ في الشَّرعِ يُعافُ فيها ما هو مِن مُستَحسَناتِ الشَّرعِ، بَل مِن موجِباتِه. كَعادةِ التَّبَرُّجِ، فلا يَكونُ الحِجابُ الشَّرعيُّ للمَرأةِ مَكروهًا؛ لأنَّ تلك العادةَ المَذمومةَ تَعافُه، بَل تلك العادةُ هيَ المَذمومةُ والمُحَرَّمةُ [1536] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/22)، ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 161، 169)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (1/467)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (9/364). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ لأنَّها تَقضي بأنَّ ما يَكرَهُه المُسلِمُ في العادةِ فهو مَكروهٌ له استِعمالُه في العِبادةِ؛ لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ‌وَلَا ‌تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة: 267] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اسمَ الخُبثِ يَتَناولُ الحَرامَ تارةً، والدَّنيءَ أُخرى، كَما قال تعالى: وَلَا ‌تَيَمَّمُوا ‌الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ يَعني الدَّنيءَ، وكَقَولِه مِن بَعدِ ذلك: وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ، فيُحمَلُ على الدَّنيءِ دونَ الحَرامِ. فلا يَصِحُّ للمُتَصَدِّقِ -سَواءٌ في الزَّكاةِ المَفروضةِ أم في التَّطوُّعاتِ الماليَّةِ- أن يَتَعَمَّدَ إعطاءَ الفقيرِ الخَبيثَ الرَّديءَ؛ فإنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وليسَ مِنَ الأدَبِ أوِ الإحسانِ أن يَجعَلَ الإنسانُ للهِ ما يَكرَهُ مِنَ المالِ [1537] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (4/246)، ((التفسير الوسيط)) لوهبة الزحيلي (1/156). .
2- قال اللهُ تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قيل: الرُّجْزُ: اسمٌ للقَبيحِ المُستَقذَرِ، كالرِّجسِ، فيَكونُ نَهيًا عن كُلِّ فِعلٍ قَبيحٍ مُستَشنَعٍ [1538] يُنظر: ((التيسير في التفسير)) للنسفي (15/89)، ((تفسير الرازي)) (30/699). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أربَعٌ لا تُجزِئُ في الأضاحيِّ: العَوراءُ البَيِّنُ عَوَرُها، والمَريضةُ البَيِّنُ مَرَضُها، والعَرجاءُ البَيِّنُ ظَلَعُها، والكَسيرةُ التي لا تُنقِي )) [1539] أخرجه أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (4370) واللفظ له. صحَّحه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (4/168)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (5921)، والنووي في ((المجموع)) (8/399)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (121)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (26/665)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يُبَيِّنُ الحَديثُ أنَّ الأصلَ أنَّ العَيبَ الفاحِشَ مانِعٌ، واليَسيرَ مِنَ العَيبِ غَيرُ مانِعٍ؛ لأنَّ الحَيَوانَ قَلَّما يَنجو مِنَ العَيبِ اليَسيرِ؛ فاليَسيرُ ما لا أثَرَ له في لحمِها، وللعَوَرِ أثَرٌ في ذلك؛ لأنَّه لا يُبصِرُ بعَينٍ واحِدةٍ مِنَ العَلفِ ما يُبصِرُ بالعَينَينِ، وعِندَ قِلَّةِ العَلَفِ يَتَبَيَّنُ العَجفُ، ثُمَّ العَينُ والأُذُنُ مَنصوصٌ على اعتِبارِها، فإذا كانت مَقطوعةَ الأُذُنِ لم تُجْزِ؛ لانعِدامِ شَرطٍ مَنصوصٍ، وإذا كانت مَقطوعةَ الطَّرْفِ فكذلك بطَريقِ الأَولى. ويَنبَغي في الجُملةِ أن يُتَّقى العَيبُ وتُتَوخَّى السَّلامةُ؛ لأنَّه ذَبحٌ مَقصودٌ به القُربةُ، فوجَبَ أن يَكونَ مُسَلَّمًا مِمَّا يَنقُصُه ويُكَدِّرُه؛ لقَولِ اللهِ تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، وقَولِ اللهِ تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل: 62] [1540] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/15)، ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (1/662). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: سُئِل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الماءِ وما يَنوبُه مِنَ الدَّوابِّ والسِّباعِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا كان الماءُ قُلَّتَينِ لم يَحمِلِ الخَبَثَ )) [1541] أخرجه أبو داود (63) واللَّفظُ له، والترمذي (67)، والنسائي (52) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحهـ)) (1/211)، وابن حبان كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (11)، والحاكم في ((المستدرك)) (466)، وعبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/154)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/66)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/404). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
مَفهومُ الحَديثِ أنَّ ما دونَ ذلك يَحمِلُ الخَبَثَ، والنُّفوسُ تَعافُ القَليلَ إذا وقَعَت فيه النَّجاسةُ، وما لم يَرضَه الإنسانُ لنَفسِه أَولى ألَّا يَرضاه لرَبِّه [1542] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/173). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لا يَنبَغي وضعُ المُصحَفِ على نَعلٍ نَظيفٍ لم يُلبَسْ [1543] يُنظر: ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (1/201). .
2- يُكرَهُ تَعَمُّدُ الصَّدَقةِ بالرَّديءِ؛ لقَولِ اللهِ تعالى: ‌وَلَا ‌تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة: 267] ، ويُستَحَبُّ تَعَمُّدُ أجوَدِ مالِه وأحَبِّه إليه؛ لقَولِ اللهِ تعالى: لَنْ ‌تَنَالُوا ‌الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عِمرانَ: 92] [1544] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/241)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (3/2059). .
3- يَحرُمُ على الإنسانِ التَّضَمُّخُ بالنَّجاساتِ مِن غَيرِ حاجةٍ ماسَّةٍ؛ لأنَّ النَّجاساتِ تُتَقَذَّرُ في الجِبِلَّاتِ، واجتِنابُها مُهمٌّ في المَكارِمِ والمروءاتِ [1545] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (2/85). .

انظر أيضا: