موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الخامِسَ عَشَرَ: مَن تَقَرَّرَت له عادةٌ عمِل بها


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "مَن تَقَرَّرَت له عادةٌ عمِل بها" [1401] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (1/346)، ((العرف)) لكمال جعيط، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي (5/2450). ، وصيغةِ: "كُلُّ مَن له عُرفٌ يُحمَلُ كَلامُه على عُرفِه" [1402] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/76)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/73)، ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 129). ، وصيغةِ: "مَن له عُرفٌ وعادةٌ في لفظٍ إنَّما يُحمَلُ لفظُه على عُرفِه" [1403] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 211). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه يَنبَغي مُراعاةُ عُرفِ المُتَكَلِّمِ في جَميعِ الأحوالِ، سَواءٌ تعَلَّق الأمرُ بالأفعالِ الشَّرعيَّةِ مِن مُعامَلاتٍ وإقراراتٍ، أوِ الأفعالِ العاديَّةِ مِن ألفاظٍ وغَيرِها مِن سائِرِ التَّصَرُّفاتِ، فكُلُّ مُتَكَلِّمٍ له عُرفٌ وعادةٌ في لفظٍ، فإنَّ لَفظَه يُحمَلُ على عُرفِه وعادَتِه في الشَّرعيَّاتِ والمُعامَلاتِ والإقراراتِ وسائِرِ التَّصَرُّفاتِ؛ لأنَّ دَلالةَ العُرفِ مُقدَّمةٌ على دَلالةِ اللُّغةِ [1404] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 211)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/287)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/299)، ((العرف)) لكمال جعيط، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي (5/2449). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ مُراعاةَ عُرفِ المُتَكَلِّمِ في تَصَرُّفاتِه أصلٌ في اعتِبارِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، فيَنبَغي تَحكيمُه في سائِرِ تَصَرُّفاتِه؛ إذِ العادةُ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا ‌فَلْيَأْكُلْ ‌بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أُنزِلَت هذه الآيةُ في والي اليَتيمِ الذي يُقيمُ عليه ويُصلِحُ في مالِه، إن كان فقيرًا أكَل مِنه بالمَعروفِ كَما ذَكَرَت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها [1405] لفظُه: عن هشامٍ، عن أبيه، (عن عائِشةَ، في قَولِه: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] قالت: أنزِلَت في والي مالِ اليَتيمِ الذي يَقومُ عَليه ويُصلِحُه، إذا كان مُحتاجًا؛ أن يَأكُلَ مِنهـ). أخرجه البخاري (2212)، ومسلم (3019) واللَّفظُ له. . ويَتَّضِحُ وَجهُ الدَّلالةِ مِن تَبويبِ البخاريِّ لهذه الآيةِ، فقد أورَدَها تَحتَ بابِ: "مَن أجرى أمرَ الأمصارِ على ما يَتَعارَفونَ بَينَهم في البُيوعِ والإجارةِ والمِكيالِ والوزنِ، وسُنَنِهم على نيَّاتِهم ومَذاهِبِهمُ المَشهورةِ" [1406] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (2/323 - 324). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قالت هندٌ أُمُّ مُعاويةَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ، فهَل عليَّ جُناحٌ أن آخُذَ مِن مالِه سرًّا؟ قال: خُذي أنتِ وبَنوكِ ما يَكفيك بالمَعروفِ)) [1407] أخرجه البخاري (2211) واللَّفظُ له، ومسلم (1714). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَظهَرُ وَجهُ الدَّلالةِ مِن تَبويبِ البخاريِّ لهذا الحَديثِ كَما في الدَّليلِ السَّابقِ، فقد أورَدَ هذا الحَديثَ أيضًا تَحتَ بابِ: "مَن أجرى أمرَ الأمصارِ على ما يَتَعارَفونَ بَينَهم في البُيوعِ والإجارةِ والمِكيالِ والوَزنِ، وسُنَنِهم على نيَّاتِهم ومَذاهِبِهمُ المَشهورةِ" [1408] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (2/323 - 324). .
ومُطابَقَتُه للتَّرجَمةِ مِن حَيثُ إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لهندٍ: ((خُذي ما يَكفيكِ وولَدَكِ بالمَعروفِ))، وهو عادةُ النَّاسِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ العُرفَ بَينَهم عَمَلٌ جارٍ [1409] يُنظر: ((عُمدة القارِّيّ)) للعَينيِّ (12/16). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا كان لفظُ الشَّارِعِ له مَدلولٌ شَرعيٌّ ومَدلولٌ لُغَويٌّ، فإنَّه يُحمَلُ على مَدلولِه الشَّرعيِّ، كَقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقبَلُ اللهُ صَلاةً بغَيرٍ طُهورٍ )) [1410] أخرجه مسلم (224) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُه: عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ، قال: دَخَل عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ على ابنِ عامِرٍ يَعودُه وهو مَريضٌ، فقال: ألَا تَدعو اللَّهَ لي يا ابنَ عُمَرَ؟ قال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: لا تُقبَلُ صَلاةٌ بغَيرِ طُهورٍ، ولا صَدَقةٌ مِن غُلولٍ. وكُنتَ على البَصرةِ. ، فإنَّه يُحمَلُ على الصَّلاةِ في عُرفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دونَ الدُّعاءِ؛ إذ لو حُمِل على المَعنى اللُّغَويِّ -وهو الدُّعاءُ- لزِمَ أن لا يَقبَلُ اللهُ تعالى دُعاءً بغَيرٍ طُهورٍ، ولم يَقُلْ به أحَدٌ، فيَجِبُ حَملُه على الصَّلاةِ المَعهودةِ في الشَّرعِ، وهيَ العِبادةُ المَخصوصةُ [1411] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/76)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/299)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 172). .
2- تُحمَلُ الألفاظُ الصَّادِرةُ مِن أربابِ العُلومِ على عُرفِهم في مُصطَلحاتِهم، كالفقيهِ مَثَلًا، فإنَّه يُرجَعُ إلى عُرفِه في كَلامِه ومُصطَلحاتِه، وكَذا الأُصوليُّ والمُحدِّثُ والمُفسِّرُ واللُّغَويُّ، ونَحوُهم مِن أربابِ العُلومِ؛ ولذلك فإنَّ القاضيَ والمُفتيَ إذا أرادَ تَفسيرَ النَّصِّ الفِقهيِّ حَمَله على عُرفِ الفُقَهاءِ ومُصطَلحاتِهم في الكِتابةِ، والتَّدوينِ، والتَّقريرِ [1412] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/299)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 172)، ((توصيف الأقضية)) لعبد الله آل خنين (1/579). .
3- يُستَحَبُّ في القاضي أن يَكونَ مِن أهلِ المِنطَقةِ التي يَعمَلُ فيها، وأن يَكونَ عالِمًا بأعرافِ النَّاسِ مُطَّلِعًا على أحوالِ المُتَقاضينَ وعاداتِهم حتَّى يَقضيَ بَينَ النَّاسِ طِبقًا لِما جَرَت عليه عاداتُهم وتَصَرُّفاتُهمُ التي اعتادوها في حَياتِهمُ اليَوميَّةِ وفي أسواقِهم ومُجتَمَعاتِهم، حتَّى يَكونَ أقرَبَ إلى الحَقِّ في أحكامِه مُطابقًا لمَصلحَتِهم جاريًا على أعرافِهم [1413] يُنظر: ((العرف)) لكمال جعيط، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي (5/2450). .

انظر أيضا: