موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الرَّابعَ عَشَرَ: ألفاظُ الواقِفينَ تُبنى على عُرفِهم


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "ألفاظُ الواقِفينَ تُبنى على عُرفِهم" [1392] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 80)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (4/245)، ((نشر العرف)) ضمن رسائل ابن عابدين (2/146)، ((العقود الدرية)) (1/140) كلاهما لابن عابدين، ((مدونة أحكام الوقف)) (2/224). ، وصيغةِ: "ألفاظُ الواقِفينَ مَبناها على العُرفِ" [1393] يُنظر: ((شرح الخرشي على مختصر خليل)) (7/90)، ((ضوء الشموع)) للأمير (4/38)، ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (11/415). ، وصيغةِ: "ألفاظُ الواقِفينَ إنَّما تُحمَلُ غالبًا على الأُمورِ المُتَعارَفةِ دونَ الدَّقائِقِ الشَّرعيَّةِ" [1394] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (3/290). ، وصيغةِ: "الرُّجوعُ إلى العادةِ في ألفاظِ الواقِفِ" [1395] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/366). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُبَيِّنُ هذه القاعِدةُ أنَّ ألفاظَ الواقِفينَ يَنبَغي أن تُحمَلَ على عادَتِهم في الخِطابِ، ولُغَتِهمُ التي يَتَكَلَّمونَ بها، سَواءٌ وافقَت لُغةَ العَرَبِ أو لُغةَ الشَّرعِ أو لا، وهذا أمرٌ يَنبَغي التَّنَبُّهُ له، ويُستَفادُ مِنه في حَلِّ إشكالاتٍ كَثيرةٍ؛ فهذه القاعِدةُ مُهمَّةٌ؛ لِما فيها مِن تَحقيقِ إرادةِ الواقِفِ، وما يَتَرَتَّبُ عليها مِنَ العَدلِ بَينَ المَوقوفِ عليهم. فمَذهَبُ أكثَرِ أهلِ العِلمِ أنَّ ألفاظَ الواقِفينَ تُحمَلُ على حُكمِ العادةِ الجاريةِ بَينَهم، والعادةُ المُستَمِرَّةُ والعُرفُ المُستَقِرُّ في الوقفِ يَدُلُّ على بَيانِ شَرطِ الواقِفِ، فالمُعتَبَرُ هو عُرفُهم في الاستِعمالِ دونَ النَّظَرِ إلى لُغةِ أو عُرفِ آخَرينَ؛ لأنَّ كَلامَ النَّاسِ في عُقودِهم وإنشاءاتِهم إنَّما يَدُلُّ على مَقاصِدِهم هم، فلا تَكونُ لُغةُ الشَّارِعِ أو عُرفُه دَليلًا على مَقاصِدِهم [1396] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/429)، ((مدونة أحكام الوقف)) (2/128)، ((منحة العلام)) لعبدالله الفوزان (7/19)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (16/622). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (التَّحقيقُ في هذا أنَّ لَفظَ الواقِفِ ولفظَ الحالِفِ والشَّافِعِ والموصي وكُلِّ عاقِدٍ، يُحمَلُ على عادَتِه في خِطابِه، ولُغَتِه التي يَتَكَلَّمُ بها، سَواءٌ وافقَتِ العَرَبيَّةَ العَرْباءَ، أوِ العَرَبيَّةَ المولَّدةَ، أوِ العَرَبيَّةَ المَلحونةَ، أو كانت غَيرَ عَرَبيَّةٍ، وسَواءٌ وافقَت لُغةَ الشَّارِعِ أو لم توافِقْها؛ فإنَّ المَقصودَ مِنَ الألفاظِ دَلالتُها على مُرادِ النَّاطِقينَ بها) [1397] ((مجموع الفتاوى)) (31/47). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الرُّجوعَ في ألفاظِ الواقِفينَ إلى أعرافِهم هو تَطبيقٌ للقاعِدةِ الأُمِّ، فيَجِبُ تَحكيمُ أعرافِهم وعاداتِهم في بَيانِ المُرادِ بألفاظِهم.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ إذ هيَ مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا وقَف لمَسجِدٍ فإنَّه يُحمَلُ على الصَّرفِ في عِمارَتِه ومَصالحِه. وكَذا الوقفُ على العُلماءِ، والفُقَهاءِ، والفُقَراءِ، والمَساكينِ، ونَحوِ ذلك، يُرجَعُ فيه كُلِّه إلى العُرفِ والعادةِ [1398] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/366). .
2- إذا رَتَّبَ الواقِفُ الطَّبَقاتِ، فقال: وقَفتُ على أولادي ثُمَّ أولادِهم، استَحَقَّ أولادُ الأبناءِ مُرَتَّبًا بَعدَ آبائِهم تَرتيبَ بَطنٍ على بَطنٍ، فلا يَستَحِقُّ أحَدٌ مِنَ البَطنِ الثَّاني مَعَ وُجودِ واحِدٍ مِنَ البَطنِ الأوَّلِ، إلَّا أن يَجريَ عُرفٌ بخِلافِه فيُعمَلَ به؛ لأنَّ ألفاظَ الواقِفِ مَبناها على العُرفِ [1399] يُنظر: ((المعاملات المالية)) للدبيان (16/619). .
3- حَملُ أوقافِ المَدارِسِ فيما يَستَحِقُّه أربابُها على التَّفاوُتِ بقَدرِ رُتبَتِهم في الفِقهِ والتَّفقُّهِ والإعادةِ والتَّدريسِ، وكذلك وقَتُ التَّدريسِ مَحمولٌ على البُكورِ؛ لاطِّرادِ العُرفِ بذلك، فلو أرادَ المُدَرِّسُ أن يَذكُرَ الدَّرسَ في اللَّيلِ أو وقتَ الزَّوالِ أو وقتَ المَغرِب، مُنِعَ مِن ذلك [1400] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/134). .

انظر أيضا: