المَطلبُ الثَّالثَ عَشَرَ: إذا تَعارَضَ العُرفُ والشَّرعُ قُدِّمَ العُرفُ إلَّا أن يَتَعَلَّقَ بالشَّرعِ حُكمٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ الفُقَهاءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ
[1382] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/378)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 93)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 82). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالمُرادُ بالعُرفِ: عُرفُ الاستِعمالِ مِنَ النَّاسِ لشَيءٍ، والمُرادُ بالشَّرعِ: لفظُه، بوُرودِ لفظِ ذلك الشَّيءِ في الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ.
وتَعارُضُ عُرفِ الاستِعمالِ مَعَ الشَّرعِ، نَوعانِ:
الأوَّلُ: أن لا يَتَعَلَّقَ باللَّفظِ الشَّرعيِّ حُكمٌ؛ فيُقدَّمُ عليه عُرفُ الاستِعمالِ، فيُقدَّمُ العُرفُ في جَميعِ ذلك؛ لأنَّها استُعمِلَت في الشَّرعِ تَسميةً بلا تَعَلُّقِ حُكمٍ وتَكليفٍ.
والثَّاني: أن يَتَعَلَّقَ به حُكمٌ، فيُقدَّمُ الشَّرعُ على عُرفِ الاستِعمالِ
[1383] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/378)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 93)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/309)، ((العرف)) لخليل الميس، منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (5/2383). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ تَقديمَ عُرفِ الاستِعمالِ على الشَّرعِ فيما لم يَتَعَلَّقْ به حُكمٌ يُعَدُّ تَحكيمًا للعُرفِ، وهو مَعنى: العادةُ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ إذ هيَ مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
أ- أمثِلةُ تَقديمِ العُرفِ على الشَّرعِ؛ حَيثُ لم يَتَعَلَّقْ بالشَّرعِ حُكمٌ:1- مَن حَلَف ألَّا يَأكُلَ لحمًا وأكَل سَمَكًا، لا يَحنَثُ؛ لأنَّ السَّمَكَ في العُرفِ لا يُعتَبَرُ لحمًا، وإن كان الشَّرعُ قد سَمَّاه لحمًا، لكِنَّه لم يُعَلِّقْ به حُكمًا، فيُعمَلُ بالعُرفِ؛ فلفظُ (السَّمَكِ) يُعَدُّ في الشَّرعِ مِنَ اللَّحمِ، كَما قال اللهُ تعالى:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل: 14] ، أمَّا في العُرفِ فلا يُعَدُّ لحمًا، لكِنَّ الشَّرعَ لم يُعَلِّقْ به حُكمًا؛ لذا يُؤخَذُ هنا بالعُرفِ
[1384] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/378)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 83). .
2- مَن حَلَف ألَّا يَجلِسَ في ضَوءِ سِراجٍ فجَلسَ في ضَوءِ الشَّمسِ، لم يَحنَثْ؛ وذلك لأنَّ هذه الأسماءَ استُعمِلت في الشَّرعِ تَسميةً فقَط، ولم يَتَعَلَّقْ بها أحكامٌ؛ فقد سَمَّى اللَّهُ تعالى الشَّمسَ سِراجًا، فقال تعالى:
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16] ، لكِنَّ العُرفَ لا يُسَمِّيها سِراجًا
[1385] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/378)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 82). .
ففيما سَبَقَ يُقدَّمُ العُرفُ مِن وجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّ أهلَ العُرفِ لا يُسَمُّونَها بذلك، فقُدِّمَ عُرفُ الاستِعمالِ على عُرفِ الشَّرعِ؛ لأنَّها فيه تَسميةٌ لم يَتَعَلَّقْ بها تَكليفٌ.
الثَّاني: أنَّ الإنسانَ إنَّما يُؤاخَذُ بما نَواه وفعَلَه، كَما قال اللهُ تعالى:
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة: 89] أي: قَصَدتُم، وعَقدُ القَلبِ: قَصدُه وتَصميمُه
[1386] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/379). .
ب- أمثِلةُ تَقديمِ الشَّرعِ على العُرفِ حَيثُ يَتَعَلَّقُ بالشَّرعِ حُكمٌ:1- إذا قال لزَوجَتِه: إن رَأيتِ الهلالَ فأنتِ طالقٌ. فرَآه غَيرُها وعَلِمَت به، طُلِّقَت، حَملًا له على الشَّرعِ؛ فإنَّها فيه بمَعنى العِلمِ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((صوموا لرُؤيَتِه وأفطِروا لرُؤيَتِه )) [1387] أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقُدِّمَ هنا الشَّرعُ على عُرفِ الاستِعمالِ؛ لأنَّ هذه المَسألةَ يَتَعَلَّقُ بها حُكمٌ
[1388] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 93)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 83). .
2- إذا أوصى رَجُلٌ لأقارِبه فلا يَدخُلُ الورَثةُ؛ عَمَلًا بتَخصيصِ الشَّرعِ:
((لا وصيَّةَ لوارِثٍ)) [1389] لفظُه: عن أبي أمامةَ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللَّهَ قد أعطى كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه؛ فلا وصيَّةَ لوارِثٍ)). أخرجه أبو داود (2870) واللَّفظُ له، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713). صَحَّحه ابنُ العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (4/432)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2870)، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/215)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2870)، وحسَّنه الإمام أحمد كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (286)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/439). يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 83)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/309). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفائِدةٌ:إذا كان اللَّفظُ يَقتَضي العُمومَ، والشَّرعُ يَقتَضي التَّخصيصَ، اعتُبرَ خُصوصُ الشَّرعِ في الأصَحِّ. فلو حَلَف لا يَأكُلُ لحمًا، لم يَحنَثْ بالمَيْتةِ، أو حَلَف أن لا يَشرَبَ ماءً، لم يَحنَثْ بالمُتَغَيِّرِ كَثيرًا بزَعفرانٍ ونَحوِه
[1391] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/381)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 93). .