موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّاني عَشَرَ: الإشارةُ المَعهودةُ مِنَ الأخرَسِ كالبَيانِ باللِّسانِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ الفُقَهاءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ [1362] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (4/113)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 302)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 351)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/342)، ((التحفة المكية)) لمحمد الشاوي (ص: 84). .
واستُعمِلت بصيَغةِ: "إشارةُ الأخرَسِ إذا فُهمَت قامَت مَقامَ النُّطقِ" [1363] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/459). ، وصيغةِ: "وإشارةُ الأخرَسِ المُفهِمةُ كَصَريحِ المَقالِ" [1364] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/135). ، وصيغةِ: "إشارةُ الأخرَسِ كَعِبارةِ النَّاطِقِ" [1365] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (14/72)، ((المبسوط)) للسرخسي (7/42)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (19/119)، ((المنثور)) للزركشي (1/164)، ((التدريب)) للبلقيني (3/328)، ((البناية)) للعيني (5/577). ، وصيغةِ: "إشارةُ الأخرَسِ بعَقدٍ كَنُطقِ لفظةٍ بعَقدٍ" [1366] يُنظر: ((دقائق المنهاج)) للنووي (ص: 59). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
هذه القاعِدةُ مِنَ القَواعِدِ المُهمَّةِ في الشَّريعةِ، وهيَ تُمَثِّلُ جانِبًا مِن جَوانِبِ التَّيسيرِ في التَّشريعِ فيما يَتَعَلَّقُ بغَيرِ النَّاطِقينَ؛ فلو لم تُعتَبَرْ إشارةُ الأخرَسِ لأصابَه الضَّرَرُ والحَرَجُ، ولما صَحَّت مُعامَلتُه لأحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وقد يُصبِحُ عُرضةً للمَوتِ جوعًا وعُريًا إن لم يَجِدْ أحَدًا يَقضي له مَصالحَه.
والمَعنى أنَّ الإشارةَ المَعهودةَ، أي: المَعلومةَ المُعتادةَ، مِنَ الأخرَسِ الأصليِّ بعُضوٍ مِن أعضائِه، كاليَدِ والرَّأسِ أوِ الحاجِبِ، تُعتَبَرُ كَبَيانِ النَّاطِقِ باللِّسانِ في بناءِ الأحكامِ عليها، فتَقومُ مَقامَه في كُلِّ شَيءٍ -غَيرَ الحُدودِ والشَّهادةِ- وذلك كالنِّكاحِ والطَّلاقِ والعتاقِ والبَيعِ والإجارةِ والهِبةِ والرَّهنِ والإبراءِ، والإقرارِ والإنكارِ، والحَلفِ والنُّكولِ.
ويُشتَرَطُ لصِحَّةِ اعتِبارِ إشارةِ الأخرَسِ أن تَكونَ مَفهومةً ومَعهودةً يَفهَمُها كُلُّ مَن وقَف عليها، كالتَّحريكِ برَأسِه طولًا للموافقةِ، وعَرضًا للرَّفضِ، فإذا كان القاضي واقِفًا على مَعنى إشارةِ الأخرَسِ فبها، وإلَّا يَسألُ مِن إخوانِ الأخرَسِ أو أصدِقائِه الذينَ يَعرِفونَ ما هو المَقصَدُ مِن تلك الإشارةِ، وهؤلاء يوضِّحونَ ويُفسِّرونَ بحُضورِ القاضي مَقصَدَ الأخرَسِ، ويَجِبُ أن يَكونَ هؤلاء عُدولًا، ومِمَّن يُقبَلُ قَولُهم؛ لأنَّه لا يُعتَمَدُ كَلامُ الفاسِقِ. فمَعنى (الإشارةِ المَعهودةِ) أنَّه إذا كانتِ الإشارةُ غَيرَ مَعهودةٍ لا يُعمَلُ بها.
ويُفهمُ مِن إيرادِ هذه القاعِدةِ مُطلَقةً أنَّ إشارةَ الأخرَسِ تَكونُ مُعتَبَرةً، سَواءٌ كان عالِمًا بالكِتابةِ أو غَيرَ عالمٍ؛ لأنَّ الكِتابةَ والإشارةَ بدَرَجةٍ واحِدةٍ مِن حَيثُ الدَّلالةُ على المُرادِ، فلا يُشتَرَطُ لاعتِبارِ إشارةِ الأخرَسِ عَدَمُ عِلمِه بالكِتابةِ، فإذا كان عالِمًا بالكِتابةِ فكَتَبَ ولم يُشهِدْ، أو أشارَ ولم يَكتُبْ، فإنَّه يَكونُ مُعتَبَرًا، ولكِن شَرَطوا لإيقاعِه الطَّلاقَ أن يَكونَ مَقرونًا مِنه بتَصويتٍ.
والاحتِرازُ بالأخرَسِ الأصليِّ عنِ العارِضِ، وهو مُعتَقَلُ اللِّسانِ، فإنَّه لا تُعتَبرُ إشارَتُه إلَّا إذا اتَّصَل بعُقلتِه المَوتُ، أو دامَت سَنةً.
والاحتِرازُ بالأخرَسِ عنِ القادِرِ على التَّكَلُّمِ؛ فإنَّ إشارةَ النَّاطِقِ لا تُعتَبَرُ؛ لأنَّ الإشارةَ تَقومُ مَقامَ اللَّفظِ عِندَ العَجزِ عنه [1367] يُنظر لهذا المعنى الإجماليِّ للقاعدةِ: ((المنثور)) للزركشي (1/164)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (4/113)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 302)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 351)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/342). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العادةَ بَينَ الصُّمِّ والبُكمِ هيَ التَّعامُلُ بالإشارةِ، فيَجِبُ تَحكيمُها في التَّصَرُّفاتِ؛ إذِ العادةُ مُحَكَّمةٌ. قال الجَصَّاصُ: (لم يَختَلفِ الفُقَهاءُ أنَّ إشارةَ الصَّحيحِ لا تَقومُ مَقامَ قَولِه، وإنَّما كان في الأخرَسِ كذلك؛ لأنَّه بالعادةِ والمِرانِ والضَّرورةِ الدَّاعيةِ إليها قد عُلمَ بها ما يُعلَمُ بالقَولِ، وليسَ للصَّحيحِ في ذلك عادةٌ مَعروفةٌ فيُعمَلَ عليها) [1368] ((أحكام القرآن)) (3/283). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ ‌مِنَ ‌الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ قيل فيه: إنَّه أشارَ إليهم وأومَأ بيَدِه، فقامَتِ الإشارةُ في هذا المَوضِعِ مَقامَ القَولِ؛ لأنَّها أفادَت ما يُفيدُه القَولُ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ إشارةَ الأخرَسِ مُعَوَّلٌ عليها قائِمةٌ فيما يَلزَمُه مَقامَ القَولِ [1369] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/283). .
- وقال اللهُ تعالى عن مَريَمَ: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم: 29] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّهم عَرَفوا بإشارَتِها ما يَعرِفونَه مِن نُطقِها؛ فدَلَّ على أنَّ إشارةَ الأخرَسِ إذا فُهمَت قامَت مَقامَ النُّطقِ [1370] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/459)، ((تفسير القرطبي)) (11/104). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمِعَ رَجُلًا يَقولُ: اللَّيلةُ ليلةُ النِّصفِ. فقال: له ما يُدريك أنَّ اللَّيلةَ النِّصفُ؟ سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((الشَّهرُ هَكَذا وهَكَذا -وأشارَ بأصابعِه العَشرِ مَرَّتَينِ- وهَكَذا في الثَّالثةِ، وأشارَ بأصابعِه كُلِّها، وحَبَسَ أو خَنَسَ إبهامَهـ)) [1371] أخرجه البخاري (1908، 5302) مفرَّقًا بنحوه، ومسلم (1080) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وهو أفصَحُ النَّاسِ- قد أنبَأنا بالإشارةِ عَدَدَ أيَّامِ الشَّهرِ، وإذا كانتِ الإشارةُ قد تَكونُ بَيانًا مِنَ القادِرِ في بَعضِ المَواضِعِ -كَما هنا- فالعاجِزُ عنِ النُّطقِ أَولى أن تُقبَلَ إشارَتُه، وتَكونَ بَيانًا لِما يُريدُ [1372] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/218)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 303)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/342). .
3- مِنَ الإجماعِ:
القاعِدةُ في الجُملةِ مَحَلُّ اتِّفاقٍ بَينَ الفُقَهاءِ [1373] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/4880)، ((الاستذكار)) لابن عبدالبر (5/35، 36)، ((المغني)) لابن قدامة (9/369). .
4- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ إذ هيَ مُتَفرِّعةٌ عنها، وبقاعِدةِ: (الكِتابُ كالخِطابِ)؛ فالكِتابُ مِنَ الغائِبِ إذا كان مُعتَبرًا كالخِطابِ عِندَ العَجزِ؛ ففي حَقِّ الأخرَسِ أَولى، لأنَّ عَجزَه أظهَرُ وألزَمُ عادةً؛ لأنَّ الغائِبَ يَقدِرُ على الحُضورِ، والأخرَسَ لا يَقدِرُ على النُّطقِ والتَّعبيرِ، فكان قَبولُ إشارَتِه أَولى [1374] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/218)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/544)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 303). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- اعتَبَرَ الشَّرعُ الإشارةَ مِنَ الأخرَسِ في العِباداتِ، فإذا حَرَّكَ لسانَه بالتَّكبيرِ والقِراءةِ ونَحوِها كان صحيحًا [1375] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/227)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 303)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/342). .
2- إذا فُهِمَت إشارةُ الأخرَسِ صَحَّ النِّكاحُ بها، وكذلك يَقَعُ طَلاقُ الأخرَسِ بالإشارةِ المَعهودةِ له [1376] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (3/21)، ((اللباب)) للميداني (3/46)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 153). .
3- إقرارُ الأخرَسِ المُتَعَلِّقُ بالمُعامَلاتِ بإشارَتِه المَعهودةِ أو كِتابَتِه مُعتَبَرٌ، فإذا أقَرَّ الأخرَسُ ببَيعٍ أو إجارةٍ، أو هبةٍ، أو رَهنٍ أو نِكاحٍ، أو طَلاقٍ، أو إبراءٍ وقِصاصٍ -على المُعتَمَدِ فيه- بإشارَتِه المَخصوصةِ، فهو صحيحٌ، ولو كان قادِرًا على الكِتابةِ [1377] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (4/112). .
4- تَقومُ إشارةُ الأخرَسِ مَقامَ تَسميَتِه عِندَ الذَّبحِ [1378] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (6/142)، ((الكافي)) لابن قدامة (1/549). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَلي:
1- إشارةُ الأخرَسِ في الحُدودِ لا تُقبَلُ، ولو كان حَدَّ القَذفِ؛ لأنَّ الحُدودَ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ [1379] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (4/113)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/344). .
2- لا تُقبَلُ إشارةُ الأخرَسِ في الشَّهادةِ؛ لأنَّها تَعتَمِدُ على لفظِ: أشهَدُ [1380] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 305)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/344). .
فائِدةٌ:
إذا كانت إشارةُ الأخرَسِ تَقومُ مَقامَ نُطقِه، فكذلك شَمُّ الأعمى وذَوقُه، فيَصِحُّ بَيعُ الأعمى وشِراؤُه وإجارَتُه ورَهنُه وهبَتُه، ويَثبُتُ له الخيارُ بما يُفيدُ مَعرِفتَه بالمَبيعِ، كالجَسِّ والشَّمِّ والذَّوقِ [1381] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/302)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (5/3452). .

انظر أيضا: