المَطلبُ الحادي عَشَرَ: الكِتابُ كالخِطابِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الكِتابُ كالخِطابِ"
[1343] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/23)، ((الاختيار)) للموصلي (2/93)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/4)، ((البناية)) للعيني (8/8)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/254)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 292)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/320)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 24). ، وصيغةِ: "الكِتابةُ مِمَّن نَأى بمَنزِلةِ الخِطابِ مِمَّن دَنا"
[1344] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/218)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/446). ، وصيغةِ: "الكِتابُ مِنَ الغائِبِ كالخِطابِ مِنَ الحاضِرِ"
[1345] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 191)، ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (2/186)، ((العناية)) للبابرتي (6/254)، ((البناية)) للعيني (8/8). ، وصيغةِ: "الكِتابُ مِنَ الغائِبِ خِطابُه"
[1346] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/231). ، وصيغةِ: "الكِتابُ أحَدُ اللِّسانَينِ"
[1347] يُنظر: ((المبسوط)) (25/31)، ((شرح السير الكبير)) (ص: 360) كلاهما للسرخسي، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/321)، ((منح الجليل)) لعليش (3/66). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُبَيِّنُ القاعِدةُ أنَّ العِباراتِ الكِتابيَّةَ هيَ كالمُخاطَباتِ الشَّفهيَّةِ؛ فما يَتَرَتَّبُ على المُكالَماتِ الشَّفويَّةِ يَتَرَتَّبُ على المُكالَماتِ الكِتابيَّةِ، فتَكونُ الكِتابةُ مِمَّن نَأى بمَنزِلةِ الخِطابِ مِمَّن دَنا، وكُلُّ كِتابٍ يُحَرَّرُ على الوَجهِ المُتَعارَفِ عليه بَينَ النَّاسِ يَكونُ حُجَّةً على كاتِبِه، كالنُّطقِ باللِّسانِ، فكَما يَجوزُ لاثنَينِ أن يُعقَدَ بَينَهما مُشافهةً عَقدُ بَيعٍ أو إجارةٍ أو كَفالةٍ أو حَوالةٍ أو رَهنٍ أو ما إلى ذلك مِنَ العُقودِ، يَجوزُ لهما عَقدُ ذلك مُكاتَبةً أيضًا؛ ولذلك قيل: الخَطُّ أحَدُ اللِّسانَينِ. وإذا كان الكِتابُ كالخِطابِ عِندَ العَجزِ ففي حَقِّ الأخرَسِ أَولى؛ لأنَّ عَجزَه أظهَرُ وألزَمُ عادةً؛ لأنَّ الغائِبَ يَقدِرُ على الحُضورِ، بَل يَحضُرُ ظاهرًا، والأخرَسُ لا يَقدِرُ على النُّطقِ.
ومِن شُروطِ الكِتابةِ المَقبولةِ التي هيَ في حُكمِ الخِطابِ: أن تَكونَ بَيِّنةً واضِحةَ الخَطِّ، ومُعَنْونةً، وإلَّا فلا يُعمَلُ بها إلَّا بالنِّيَّةِ أوِ الإشهادِ عليها، أوِ الإملاءِ على الغَيرِ، إلَّا في خَطِّ السِّمسارِ والبَيَّاعِ والصَّرَّافِ يَكتُبونَ ما عليهم في دَفاتِرِهم، فيُعمَلُ به وإن لم يَكُنْ مُعَنْونًا.
وعلى هذا فالكِتابُ على ثَلاثِ مَراتِبَ:
1- مُستَبينٌ مَرسومٌ، وهو أن يَكونَ الكِتابُ مِنها مِمَّا يُقرَأُ خَطُّه، ويَكونُ وفقًا لعاداتِ النَّاسِ ورُسومِهم، بأن يَكونَ مُعَنْونًا، أي: مُصَدَّرًا بالعُنوانِ، وهو أن يُكتَبَ في صَدرِه: مِن فُلانٍ إلى فُلانٍ، على ما جَرَت به العادةُ في تَسييرِ الكِتابِ، وفي زَمانِنا يُعَدُّ الكِتابُ مَرسومًا بالخَتمِ والتَّوقيعِ على حَدٍّ سَواءٍ، فيَكونُ هذا كالنُّطقِ، فيَكونُ حُجَّةً.
2- مُستَبينٌ غَيرُ مَرسومٍ، وهو أن يَكونَ الكِتابُ مَكتوبًا على غَيرِ ما هو مُتَعارَفٌ بَينَ النَّاسِ، كالكِتابةِ على الجُدرانِ وأوراقِ الأشجارِ أو على الكاغدِ لا على وَجهِ الرَّسمِ، فالكِتابُ الذي يُكتَبُ على هذه الصُّورةِ لغوٌ، ولا يُعتَبَرُ حُجَّةً في حَقِّ صاحِبِه؛ لأنَّه لا عُرفَ في إظهارِ الأمرِ بهذا الطَّريقِ، فلا يَكونُ حُجَّةً إلَّا بانضِمامِ شَيءٍ آخَرَ إليه، كالنِّيَّةِ والإشهادِ عليه، والإملاءِ على الغَيرِ حتَّى يَكتُبَه؛ لأنَّ الكِتابةَ قد تَكونُ للتَّجرِبةِ، وقد تَكونُ للتَّحقيقِ، وبهذه الأشياءِ تَتَعَيَّنُ الجِهةُ.
3- غَيرُ مُستَبينٍ، كالكِتابةِ على الهَواءِ أوِ الماءِ، وهو بمَنزِلةِ كَلامٍ غَيرِ مَسموعٍ، ولا يَثبُتُ به شَيءٌ مِنَ الأحكامِ، وإن نَوى، والمَقصودُ هنا بالكِتابةِ على الماءِ أو في الهَواءِ -كَما لا يَخفى- هو تَحريكُ اليَدِ بحُروفِ الكَلماتِ، كَما تُحَرَّكُ بالقَلمِ على صَفحةِ القِرطاسِ.
والمَقصودُ أنَّ الكِتابةَ مَعمولٌ بها، سَواءٌ كانت مِنَ الجانِبَينِ، كَما لو كان رَجُلٌ في مَكَّةَ فكَتَبَ إلى آخَرَ في دِمَشقَ: بِعتُك داري الكائِنةَ في دِمَشقَ أو غَيرها، وذَكَرَ أوصافَها وحُدودَها والمَبلغَ الذي سَيَبيعُها به، فكَتَبَ إليه الآخَرُ: اشتَرَيتُ مِنك الدَّارَ المَذكورةَ، فيُعقَدُ البَيعُ بَينَهما كالمُشافَهةِ، أم كانتِ الكِتابةُ مِن جانِبٍ واحِدٍ، كَما لو قال المَكتوبُ إليه في دِمَشقَ، حالَ قِراءةِ الكِتابِ في المَجلِسِ: اشتَرَيتُ، أو خاطَبَه بالقَبولِ هاتِفيًّا.
وعلى هذا سائِرُ التَّصَرُّفاتِ الماليَّةِ والعُقودِ مِن كَفالةٍ أو حَوالةٍ أو إيجارٍ أو نِكاحٍ، إلخ، غَيرَ أنَّ صِحَّةَ عَقدِ النِّكاحِ تَتَوقَّفُ على أن يَقرَأَ المَكتوبُ إليه الكِتابَ، ويُعلِنَ الموافقةَ بمَحضَرٍ مِنَ الشُّهودِ
[1348] يُنظر لهذا المَعنى الإجماليِّ للقاعِدةِ: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/218)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (4/80)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/69)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 301)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 349). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العادةَ مِمَّن غابَ أو سافرَ أن يُمضيَ عُقودَه بالكِتابةِ، فيُعمَلَ بهذه العادةِ، وتُحَكَّمَ في العُقودِ والمُعامَلاتِ وغَيرِها؛ لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ، والأثَرِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:- قَولُ اللهِ تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد قال ذلك للنَّاسِ كُلِّهم؛ بَعضُهم مُشافهةً، وبَعضُهم برُسُلِه، وبَعضُهم بكُتُبِه، وبَعضُهم بنَشرِ الدَّعوةِ، حتَّى بَلَّغَ ذلك بَعضُهم بَعضًا، فدَلَّ ذلك على أنَّ الكِتابَ مِنَ الغائِبِ كالخِطابِ مِنَ الحاضِرِ، وأنَّ لسانَ الرَّسولِ كَلسانِ المُرسِلِ، وأنَّ ظُهورَ الدَّعوةِ كَبُلوغِ الدَّعوةِ، وكان كُلُّ نَبيٍّ مَبعوثًا إلى قَومِه، ورَسولُنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّاسِ كافَّةً، بَل إلى الإنسِ والجِنِّ
[1349] يُنظر: ((التيسير في التفسير)) للنسفي (7/29). .
بَل إنَّ القُرآنَ كُلَّه -وهو أصلُ الدِّينِ- قد وصَل إلينا بالكِتابةِ والمُشافَهةِ كذلك
[1350] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 301)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/339). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُبَلِّغُ تارةً بالكِتابةِ، كَما كَتَبَ إلى مُلوكِ الآفاقِ، وأرسَل إليهم مَن يَدعوهم إلى دينِ الحَقِّ، وكان ذلك تَبليغًا تامًّا مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَكونُ ذلك حُجَّةً عليهم كَما إذا بَلَّغَهم بالعِبارةِ؛ لأنَّه لو لم يَكُنِ الكِتابُ كالخِطابِ لم يَكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبَلِّغًا به
[1351] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (25/31)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/218)، ((العناية)) للبابرتي (6/255)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/544). .
3- مِنَ الأثَرِ:أنَّ الخَليفةَ الرَّاشِدَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه كان يَكتُبُ إلى بَعضِ نوَّابِه وأُمَرائِه مِثلَ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ومِن ذلك أنَّ عُمرَ كَتَب له أنِ اجعَلِ الجَدَّ أبًا؛ فإنَّ أبا بَكرٍ جَعَل الجَدَّ أبًا
[1352] أخرجه سَعيدُ بنُ مَنصورٍ (44) ولفظُه: عن سَعيدِ بنِ أبي بُردةَ عن أبيه: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كَتَبَ إلى أبي موسى الأشعَريِّ: أنِ اجعَلِ الجَدَّ أبًا؛ فإنَّ أبا بَكرٍ جَعَل الجَدَّ أبًا). قال ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/287): إسنادُه ثابتٌ. . وكَتَبَ له أيضًا أن صَلِّ الصُّبحَ والنُّجومُ باديةٌ، واقرَأْ فيها بسورَتَينِ طَويلتَينِ مِنَ المُفَصَّلِ
[1353] أخرجه مالك (2/10)، وعبد الرزاق (2036)، والبيهقي (1752)، ولفظُه: عن أبي سُهَيلِ بنِ مالكٍ، عن أبيه، (أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كَتَبَ إلى أبي موسى الأشعَريِّ: أن صَلِّ الظُّهرَ إذا زاغَتِ الشَّمسُ، والعَصرَ والشَّمسُ بَيضاءُ نَقيَّةٌ، قَبلَ أن تَدخُلَها صُفرةٌ، والمَغرِبَ إذا غَرَبَتِ الشَّمسُ، وأخِّرِ العِشاءَ ما لم تَنَمْ، وصَلِّ الصُّبحَ والنُّجومُ باديةٌ مُشتَبِكةٌ، واقرَأْ فيها بسورَتَينِ طَويلتَينِ مِنَ المُفَصَّلِ). صَحَّحَ إسنادَه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (2/198). . وجاءَ عن عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه كَتَبَ إلى عُمَّالِه ألَّا يَضرِبوا الجِزيةَ على النِّساءِ والصِّبيانِ، ولا يَضرِبوها إلَّا على مَن جَرَت عليه المواسي
[1354] أخرجه عبد الرزاق (19273)، وابن أبي شيبة (33304)، والبيهقي (18717) واللَّفظُ له، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ كَثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/339). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لا تَجوزُ كِتابةُ القُرآنِ في حالِ الجَنابةِ والحَيضِ والنِّفاسِ
[1355] يُنظر: ((بريقة محمودية)) للخادمي (4/80). .
2- إذا كَتَبَ الشَّيخُ إلى غَيرِه: سَمِعتُ مِن فُلانٍ كَذا، فللمَكتوبِ إليه -إذا عَلمَ خَطَّه، أو ظَنَّه بأن أخبَرَه عَدلٌ بأنَّه خَطُّه، أو شاهَدَه يَكتُبُ- أن يَعمَلَ به ويَرويَه عنه، إذا اقتَرَنَتِ الكِتابةُ بلفظِ الإجازةِ، بأن قال: أجَزتُ لك ما كَتَبتُه إليك، فإن تَجَرَّدَتِ الكِتابةُ فقد أجازَ الرِّوايةَ بها كَثيرٌ مِنَ المُتَقدِّمينَ، قال الزَّركَشيُّ: (بالَغَ أبو المُظَفَّرِ بنُ السَّمعانيِّ، فقال: إنَّها أقوى مِنَ الإجازةِ، وظاهِرُ كَلامِ إلْكِيَا الطَّبَريُّ أنَّه بمَنزِلةِ السَّماعِ. قال: لأنَّ الكِتابَ أحَدُ اللِّسانَينِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبَلِّغُ بالكِتابِ الغائِبَ، وبالخِطابِ الحاضِرَ)
[1356] ((البحر المحيط)) (6/321). .
3- مَن أرادَ أن يَخطُبَ امرَأةً ويتَزَوَّجَها فكَتَبَ إليها بالخِطبةِ والزَّواجِ، فإذا بَلغَ المَرأةَ الكِتابُ، وأحضَرَتِ الشُّهودَ، وقَرَأته عليهم، وقالت: زوَّجتُ نَفسي مِنه، انعَقدَ النِّكاحُ وصَحَّ
[1357] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/340). .
4- إذا ورَدَ على إنسانٍ كِتابٌ فيه التَّحيَّةُ بالسَّلامِ، فيَنبَغي أن يَرُدَّ التَّحيَّةَ بمِثلِها أو أحسَنَ مِنها؛ لأنَّ الكِتابَ مِنَ الغائِبِ كالمُشافَهةِ مِنَ الحاضِرِ
[1358] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/193). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِمَسألةٌ: بَدءُ العَمَلِ بالكِتابةِإذا كانتِ الكِتابةُ في العُقودِ التي تَتَوقَّفُ على عِلمِ الآخَرِ ورِضاه، كالبَيعِ والإجارةِ والشَّرِكةِ والزَّواجِ، فلا تَأخُذُ الكِتابةُ مَفعولَها مِن بَدءِ الكِتابةِ، بَل مِن بَدءِ وُصولِ الكِتابِ، وعَقدِ قِراءَتِه، وعِندَها يُعتَبَرُ الموجِبُ والقابِلُ، فيُعتَبَرُ مَجلِسُ بُلوغِ الكِتابِ، ولا يَظهَرُ أثَرُ الكِتابةِ إلَّا بقَبولِ الطَّرَفِ الآخَرِ.
أمَّا التَّصَرُّفاتُ التي لا تَفتَقِرُ إلى إطلاعِ الطَّرَفِ الثَّاني، مِمَّا يَستَقِلُّ به الإنسانُ، كالإقرارِ، والطَّلاقِ، والعتاقِ، والإبراءِ، كَما إذا كَتَبَ: امرَأتُه طالِقٌ (بالإضافةِ إلى ياء المُتَكَلِّم) فإنَّه لا حاجةَ في ذلك إلى الإطلاعِ، بَل ولا إلى الإرسالِ، ولا يَتَقَيَّدُ بالغَيبةِ، ويَقَعُ الطَّلاقُ -ومِثلُه: الإبراءُ، والإقرارُ- بمُجَرَّدِ الكِتابةِ، نَوى أو لم يَنوِ، إذا كان الخَطُّ مَرسومًا، وكذلك لو كَتَبَ: إنَّ الدَّينَ الذي لي على فُلانِ بنِ فُلانٍ أبرَأتُه عنه: صَحَّ، وسَقَطَ الدَّينُ
[1359] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 349)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/340). .
استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَلي:
1- لا تَكونُ الكِتابةُ كالبَيانِ في شَأنِ الحُدودِ؛ لأنَّها تَندَرِئُ بالشُّبهةِ؛ لكَونِها حَقًّا للهِ تعالى، فلا حاجةَ إلى إثباتِها
[1360] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/549)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/218). .
2- الفَرقُ بَينَ الكِتابِ والخِطابِ في عَقدِ النِّكاحِ: أنَّ الكِتابَ والخِطابَ سَواءٌ إلَّا في شَيءٍ واحِدٍ، وهو أنَّه لو كان حاضِرًا فخاطَبَها بالنِّكاحِ فلم تُجِبْ في مَجلسِ الخِطابِ، ثُمَّ أجابَت في مَجلسٍ آخَرَ، فإنَّ النِّكاحَ لا يَصِحُّ.
وفي الكِتابِ إذا بَلَغَها وقَرَأتِ الكِتابَ ولم تُزَوِّجْ نَفسَها مِنه في المَجلسِ الذي قَرَأتِ الكِتابَ فيه، ثُمَّ زوَّجَت نَفسَها في مَجلسٍ آخَرَ بَينَ يَدَيِ الشُّهودِ، وقد سَمِعوا كَلامَها وما في الكِتابِ، يَصِحُّ النِّكاحُ؛ لأنَّ الغائِبَ إنَّما صارَ خاطِبًا لها بالكِتابِ، والكِتابُ باقٍ في المَجلسِ الثَّاني، فصارَ بَقاءُ الكِتابِ في مَجلسِه، وقد سَمِعَ الشُّهودُ ما فيه في المَجلسِ الثَّاني، بمَنزِلةِ ما لو تَكَرَّر الخِطابُ مِنَ الحاضِرِ في مَجلسٍ آخَرَ. فأمَّا إذا كان حاضِرًا فإنَّما صارَ خاطِبًا لها بالكَلامِ، وما وُجِدَ مِنَ الكَلامِ لا يَبقى إلى المَجلسِ التَّالي، وإنَّما سَمِعَ الشُّهودُ في المَجلسِ الثَّاني أحَدَ شَطرَيِ العَقدِ
[1361] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 349). ويُنظر أيضًا: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/61). .