المَطلبُ العاشِرُ: الحَقيقةُ تُترَكُ بدَلالةِ العادةِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الحَقيقةُ تُترَكُ بدَلالةِ العادةِ"
[1333] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (3/314)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/51)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/348)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/556)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 617)، ((رفع الانتقاض)) لابن عابدين (ص: 299)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 20). ، وصيغةِ: "الحَقيقةُ تُترَكُ بدَلالةِ الحالِ، وتُترَكُ بدَلالةِ الاستِعمالِ والعادةِ"
[1334] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 78). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُبَيِّنُ هذه القاعِدةُ أنَّ دَلالةَ اللَّفظِ الحَقيقيَّةَ تُترَكُ ولا تُعتَبَرُ إذا دَلَّ العُرفُ والعادةُ على استِعمالِ هذه اللَّفظةِ استِعمالًا مُغايِرًا لمَعناها الحَقيقيِّ، ويُبنى الحُكمُ على المَعنى الذي دَلَّ عليه العُرفُ والعادةُ، فكَلامُ النَّاسِ يَنصَرِفُ إلى ما تَعارَفوه، ولو خالف المَعانيَ الحَقيقيَّةَ التي وُضِعَ لها اللَّفظُ في أصلِ اللُّغةِ؛ حَيثُ إنَّ العُرفَ قد نَقَل هذه الألفاظَ مِن أصلِ مَعانيها اللُّغَويَّةِ إلى هذه المَعاني العُرفيَّةِ بحَيثُ لا يَخطُرُ ببالِ المُتَكَلِّمِ المَعنى الحَقيقيُّ اللُّغَويُّ لغَلَبةِ اللَّفظِ في الاستِعمالِ إلى الحَقيقةِ العُرفيَّةِ، بحَيثُ لو صُرِف كَلامُ المُتَكَلِّمِ إلى حَقيقَتِه اللُّغَويَّةِ دونَ العُرفيَّةِ لأدَّى إلى إلزامِ المُتَكَلِّمِ في عُقودِه وإقراراتِه وأيمانِه وطَلاقِه وسائِرِ تَصَرُّفاتِه القَوليَّةِ إلى ما لم يَعنِه ولم يَخطُرْ ببالِه، وإلى ما لا يَفهَمُه النَّاسُ مِن كَلامِه؛ ولهذا المَعنى قَرَّرَ الفُقَهاءُ هذه القاعِدةَ، فقالوا: الحَقيقةُ تُترَكُ بدَلالةِ العادةِ، وقالوا أيضًا: يُحمَلُ كَلامُ الحالفِ والنَّاذِرِ والموصي والواقِفِ وكُلِّ عاقِدٍ على لُغَتِه وعُرفِه، وإن خالف لُغةَ العَرَبِ والشَّارِعِ
[1335] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/50)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 300)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 231)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/335)، ((العرف)) لكمال جعيط، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي (5/2480)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (18/52). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّها أتَت كالقَيدِ لدَفعِ ما قد يُتَوهَّمُ مِن أنَّ تَحكيمَ العادةِ والعَمَلَ باستِعمالِ النَّاسِ إنَّما يَكونانِ حَيثُ لم تُعارِضْهما الحَقيقةُ، وذلك بأن لم يَكُنْ بإزائِهما حَقيقةٌ أصلًا، أو كان بإزائِهما حَقيقةٌ ولكِنَّها كانت موافقةُ لهما. وأمَّا إذا كانت مُصادِمةً لهما فلا يَكونانِ مُعتَبَرينِ، فنَبَّهَ الفُقَهاءُ بهذه القاعِدةِ على أنَّ تَحكيمَ العادةِ والعَمَلَ باستِعمالِ النَّاسِ لا تَقوى الحَقيقةُ على مُعارَضَتِهما، بَل يُعمَلُ بهما دونَها
[1336] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 231)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/336). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- الإجماعُ:فقد نَفى ابنُ رَجَبٍ الخِلافَ في تَطبيقِ القاعِدةِ في بَعضِ الأمثِلةِ
[1337] قال: (لا نَعلمُ خِلافًا أنَّه لو حَلَف لا يَجلسُ على بساطٍ، فجَلسَ على الأرضِ، لم يَحنَثْ، وقد سَمَّاها اللَّهُ بساطًا، وكذلك لو حَلَف لا يَجلسُ تَحتَ سَقفٍ، فجَلسَ تَحتَ السَّماءِ، وقد سَمَّى اللهُ السَّماءَ سَقفًا، وكذلك لو حَلَف لا يَجلسُ في ضَوءِ سِراجٍ، فجَلسَ في ضَوءِ الشَّمسِ؛ فإنَّ هذه الأسماءَ غَيرُ مُستَعمَلةٍ في العُرفِ، والأيمانُ إنَّما تَنصَرِفُ إلى ما يتَعارَفُه النَّاسُ في مُخاطَباتِهم دونَ ما يَصدُقُ عَليه الاسمُ بوَجهٍ ما في اللُّغةِ على وَجهِ التَّجَوُّزِ. واللهُ أعلمُ). ((فتح الباري)) (3/16). .
2- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- مَن حَلف أن لا يَجلِسَ على بساطٍ، فجَلسَ على الأرضِ، أو حَلَف لا يَجلسُ تَحتَ سَقفٍ فجَلسَ تَحتَ السَّماءِ، أو لا يَستَضيءُ بسِراجٍ فاستَضاءَ بالشَّمسِ، أو لا يَأكُلُ لحمًا فأكَل سَمَكًا: لم يَحنَثْ في كُلِّ ذلك. وإن سَمَّى القُرآنُ الأرضَ بساطًا والشَّمسَ سِراجًا والسَّمَكَ لحمًا؛ إذ قال تعالى:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا [نوح: 19] ، وقال:
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16] ، وقال:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل: 14] [1338] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (7/425)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/416)، ((العرف)) لكمال جعيط، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي (5/2480). .
2- صيَغُ الماضي في العُقودِ، كبِعتُ واشتَرَيتُ، يَتِمُّ العَقدُ بها، وإن كانت للماضي وَضعًا؛ لأنَّ المَقصودَ أن تَكونَ إيجابًا للحالِ
[1339] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 301). .
3- لو حَلف ألَّا يَضَعَ قدَمَه في دارِ فُلانٍ، فيَنصَرِفُ إلى الدُّخولِ بأيِّ وَجهٍ كان، راكِبًا، أو ماشيًا، أو حافيًا أو مُنتَعِلًا؛ لأنَّه هو المُتَعارَفُ، لا المَعنى الحَقيقيُّ، وهو مُباشَرةُ القدَمِ، دَخَل أم لم يَدخُلْ؛ لأنَّه مَهجورٌ عُرفًا، والعُرفُ قاضٍ على الوضعِ، حتَّى لو تكَلَّف ووَضَع قدَمَه ولم يَدخُلْ لا يُعَدُّ شَيئًا، ولا يَحنَثُ
[1340] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/336). .
4- مَن حَلَف لا يَأكُلُ هذه القِدرَ تَنعَقِدُ اليَمينُ على ما يوجَدُ في القِدرِ لا على عَينِ القِدرِ؛ فإنَّ المَعنى الحَقيقيَّ -أي: أكلَ عَينِ القِدرِ- مُحالٌ في العادةِ، فتُترَكُ الحَقيقةُ ويُرادُ المَجازُ بعَلاقةِ ذِكرِ المَحَلِّ وإرادةِ الحالِّ
[1341] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (18/51). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفائِدةٌ:اللَّفظُ قد يَكونُ له مَعنًى حَقيقيٌّ، وقد يَكونُ له مَعنًى مَجازيٌّ: فالمَعنى الحَقيقيُّ للَّفظِ هو كَإلباسِ الشَّخصِ لباسَه المَملوكَ له، والمَعنى المَجازيُّ كاللِّباسِ المُستَعارِ، فاستِعمالُ اللَّفظِ بمَعناه الحَقيقيِّ لا يَحتاجُ إلى قَرينةٍ ودَليلٍ، أمَّا في استِعمالِ ذلك اللَّفظِ في المَعنى المَجازيِّ فيَجِبُ وُجودُ قَرينةٍ مانِعةٍ مِن إرادةِ المَعنى الحَقيقيِّ للَّفظِ.
والقَرينةُ أوِ الدَّليلُ الذي يمنَعُ استِعمالَ اللَّفظِ في مَعناه الحَقيقيِّ مُتَنَوِّعةٌ، مِنها أن يَكونَ المَعنى الحَقيقيُّ للَّفظِ مَهجورًا، وهذا هو المُرادُ في هذه القاعِدةِ. فإذا أصبَحَ المَعنى الحَقيقيُّ للَّفظِ مَهجورًا عادةً وعُرفًا، وشاعَ استِعمالُه في مَعنًى آخَرَ؛ فإنَّه يُستَعمَلُ في المَعنى الذي استُعمِل فيه، ويَكونُ العُرفُ والعادةُ القَرينةَ المانِعةَ مِن إرادةِ مَعناه الحَقيقيِّ
[1342] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/50)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (18/52). .