المَطلبُ التَّاسِعُ: لا عِبرةَ بالعُرفِ الطَّارِئِ، والعُرفُ إنَّما يُعتَبَرُ إذا كان مُقارِنًا لا لاحِقًا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ الفُقَهاءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ
[1324] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 86)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/42)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/202)، ((حاشية الجمل)) (5/305). .
واستُعمِلَت أيضًا بصيغةِ: "العُرفُ الذي تُحمَلُ عليه الألفاظُ إنَّما هو المُقارِنُ أوِ السَّابقُ، دونَ المُتَأخِّرِ اللَّاحِقِ"
[1325] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/394)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 96)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 86)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 297)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/312)، ((التحفة المكية)) لمحمد الشاوي (ص: 84). ، وصيغةِ: "الأصلُ أن لا يُعتَبَرَ الطَّارِئُ مُقارِنًا في الحُكمِ"
[1326] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/76). ، وصيغةِ: "الأصلُ عَدَمُ العُرفِ الطَّارِئِ، وبَقاءُ الوَضعِ الأصليِّ بحالِه"
[1327] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/144). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ العُرفَ الذي تُحمَلُ عليه الألفاظُ وتَتَقَيَّدُ به إنَّما هو العُرفُ المُقارِنُ، أي: الذي كان مَوجودًا حالَ تَكَلُّمِ المُتَكَلِّمِ، حتَّى يُنَزَّلَ كَلامُه عليه ويُجعَلَ كالمَلفوظِ به. أمَّا العُرفُ المُتَأخِّرُ الطَّارِئُ بَعدَ ذلك فلا أثَرَ له، ولا تُنَزَّلُ الألفاظُ السَّابقةُ عليه. فهذه القاعِدةُ تُعَبِّرُ عن شَرطٍ مِن شُروطِ اعتِبارِ العُرفِ، وهو: كَونُه سابقًا للحُكمِ في الوُجودِ لا تاليًا له مُتَأخِّرًا عنه، وأن يُحمَلَ الحُكمُ على العُرفِ المَوجودِ وَقتَ التَّلفُّظِ، فلا يَجوزُ أن يُحمَلَ حُكمٌ حَدَث سابقًا على عُرفٍ حَدَثَ مُتَأخِّرًا؛ لأنَّ النُّصوصَ التَّشريعيَّةَ يَجِبُ أن تُفهَمَ مَدلولاتُها اللُّغَويَّةُ والعُرفيَّةُ في عَصرِ صُدورِ النَّصِّ؛ لأنَّها هيَ مُرادُ الشَّارِعِ أوِ العاقِدِ، ولا اعتِبارَ بتَبديلِ مَفاهيمِ اللَّفظِ في الأعرافِ المُتَأخِّرةِ
[1328] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/387)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 297)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 220)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/312). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّها تُعتَبَرُ شَرطًا لتَطبيقِها؛ حَيثُ تَشتَرِطُ في العُرفِ الذي يَجِبُ تَحكيمُه أن يَكونَ مُقارِنًا.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها تُعَدُّ شَرطًا مِن شُروطِ تَحكيمِها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لفظُ:
فِي سَبِيلِ اللهِ، ولفظُ
ابْنِ السَّبِيلِ مِن آيةِ مَصارِفِ الزَّكاةِ لها مَعنًى عُرفيٌّ إذ ذاكَ، وهو مَصالِحُ الجِهادِ الشَّرعيِّ، أو سُبُلُ الخَيراتِ في الأوَّلِ، ومَن يَنقَطِعُ مِنَ النَّاسِ في السَّفرِ في الثَّاني، فلو تَبَدَّل عُرفُ النَّاسِ في شَيءٍ مِن هذه التَّعابيرِ، فأصبَحَ سَبيلُ اللهِ -مَثَلًا- مَعناه طَلَبُ العِلمِ خاصَّةً، وابنُ السَّبيلِ: الطِّفلُ اللَّقيطُ مَثَلًا، فإنَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ يبقى مَحمولًا على مَعناه العُرفيِّ الأوَّلِ عِندَ صُدورِه، ومَعمولًا به في حُدودِ ذلك المَعنى لا غَيرُ، ولا عِبرةَ للمَعاني العُرفيَّةِ أوِ الاصطِلاحيَّةِ الطَّارِئةِ
[1329] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 297). .
2- لو سَرَقَتِ امرَأةٌ مِن زَوجِها، أو سَرَقَ رَجُلٌ مِنِ امرَأتِه، ثُمَّ طَلَّقَها قَبلَ الدُّخولِ بها، فبانَت بغَيرِ عِدَّةٍ، لم يُقطَعْ واحِدٌ مِنهما؛ لأنَّ الأخذَ حينَ وُجودِه لم يَنعَقِدْ مُوجِبًا للقَطعِ؛ لقيامِ الزَّوجيَّةِ، فلا يَنعَقِدُ عِندَ الإبانةِ؛ لأنَّ الإبانةَ طارِئةٌ، والأصلُ أن لا يُعتَبَرَ الطَّارِئُ مُقارِنًا في الحُكمِ؛ لِما فيه مِن مُخالفةِ الحَقيقةِ
[1330] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/76). .
3- أثَّرَتِ العادةُ الغالبةُ في المُعامَلاتِ؛ لكَثرةِ وُقوعِها، ولم تُعتَبَرْ في التَّعليقِ، والإقرارِ، والدَّعوى
[1331] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 96)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 86)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 297). :
أمَّا الشَّرطُ: فيبقى في التَّعليقِ على عُمومِه ولا يَخُصُّه العُرفُ الطَّارِئُ عليه؛ لأنَّ انعِقادَه إنَّما هو على العُرفِ المُقارِنِ للتَّلفُّظِ لا على العُرفِ الحادِثِ بَعدَه، فلو كان العُرفُ في بَلدةٍ على بَيعِ رَأسِ الغَنَمِ وأكلِه، فقال لزَوجَتِه: إن أكَلتِ رَأسًا فأنتِ طالقٌ، ثُمَّ تُعورِفَ فيها أكلُ رَأسِ البَقَرِ، فأكَلت بَعدَ تَبديلِ العُرفِ رَأسَ البَقَرِ، قالوا: لا يَقَعُ الطَّلاقُ؛ لأنَّ اليَمينَ انعَقدَت على رَأسِ الغَنَمِ بحَسَبِ العُرفِ المُقارِنِ للتَّعليقِ، فلا يَتَغَيَّرُ بالعُرفِ المُتَأخِّرِ.
وأمَّا الإقرارُ: فهو إخبارٌ عن وُجوبٍ سابقٍ، ورُبَّما يَتَقدَّمُ الوُجوبُ على العُرفِ الحادِثِ الغالِبِ في البَلدِ، فلوِ اعتُبرَ فيه العُرفُ دائِمًا لأدَّى إلى إبطالِ بَعضِ الحُقوقِ، فلا بُدَّ مِنَ التَّفصيلِ. فلو أقَرَّ لإنسانٍ بألفِ ريالٍ غَصَبَها أو سَرَقَها أوِ استَدانَها مُنذُ خَمسينَ سَنةً ولم يُبَيِّنْ، فيَجِبُ حَملُها على الرِّيالاتِ التي كانت سائِدةً في ذلك الزَّمَنِ، لا الرِّيالاتِ التي يتَعارَفُها النَّاسُ اليَومَ، إلَّا أن يُبَيِّنَ.
وكذلك الدَّعوى: تُنَزَّلُ على العادةِ؛ لأنَّ الدَّعوى كالإقرارِ، فهيَ إخبارٌ بما تقدَّم، فلا يُقَيِّدُها العُرفُ المُتَأخِّرُ، بخِلافِ العَقدِ؛ فإنَّه باشَرَه للحالِ، فقَيَّدَه العُرفُ.
والحاصِلُ: أنَّ العادةَ الغالبةَ إنَّما تُؤَثِّرُ في المُعامَلاتِ لكَثرةِ وُقوعِها، ولا تُؤَثِّرُ في التَّعليقِ والإقرارِ والدَّعوى، بَل يَبقى اللَّفظُ فيها على عُمومِه، ولا يُخَصِّصُه العُرفُ، فإذا اشتَرى بألفٍ في بَلدٍ عُملتُه الرِّيالاتُ لَزِمَه ذلك؛ لأنَّ البَيعَ مُعامَلةٌ، والغالِبُ أنَّ المُعامَلةَ تَقَعُ بما اعتادَه النَّاسُ مِن نُقودٍ.
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءٌ:لو سَرَقَ رَجُلٌ مِنِ امرَأةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَها، فإن تَزَوَّجها قَبلَ أن يُقضى عليه بالقَطعِ لم يُقطَعْ بلا خِلافٍ؛ لأنَّ هذا مانِعٌ طَرَأ على الحَدِّ، والمانِعُ الطَّارِئُ في الحَدِّ كالمُقارِنِ؛ لأنَّ الحُدودَ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ، فيَصيرُ طِريَّانِ الزَّوجيَّةِ شُبهةً مانِعةً مِنَ القَطعِ كقِرانِها
[1332] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/76). .