موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (87 - 89)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غريب الكلمات:

بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ: الأيمانُ اللَّاغيةُ هي التي لا يَقصِدها الحالفُ، بل تَجرِي على لِسانه عادةً من غير تَعقيدٍ ولا تأكيدٍ [1569] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/601). . واللَّغْو: ما يَجري في الكلامِ على غيرِ عَقْدٍ ولا قصْدٍ، ويُطلق اللَّغوُ على الباطِل من الكَلامِ [1570] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 85)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/401)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 249). . والْأَيْمَان: جمْع يمينٍ، وهو القَسَم، وأصلُه مِن اليُمْن، أي: البركة، سمَّاها اللهُ تعالى بذلِك؛ لأنَّها تَحفَظُ الحُقوقَ [1571] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/86)، ((تفسير القرطبي)) (6/264). .
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ: وثَّقتُموها باللَّفظِ مع العزمِ عليها، والعقدُ: الجمْعُ بين أطرافِ الشَّيء، وأصلُ (عقد): يَدلُّ على شَدٍّ، وشِدَّةِ وُثوقٍ [1572] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 126)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 576)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 641). .
أَوْسَطِ: أي: أَعْدَل، في المقدارِ، أو في الجِنس، أو في القِلَّة والكَثرةِ، وأصل (وسط) يَدُلُّ عَلَى العَدْلِ والنِّصْفِ [1573] يُنظر: ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 86)، ((تفسير ابن كثير)) (3/173، 174). .
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ: أي: إعتاقُها؛ يُقال: حررتُ المملوك، أي: أعْتَقْته، وأصل (حرر): ما خالَف العُبوديَّة، وما بَرِئَ من العيبِ والنَّقْص، والرقبةُ تُطلَقُ على الإنسانِ المملوكِ [1574] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 457)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 157)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/6)، ((المفردات)) للراغب (ص: 361) ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 121)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 310). .

مشكل الإعراب:

قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
فَصِياَمُ: الفاءُ رابطةٌ في جَوابِ الشَّرْطِ (مَنْ)، و(صِيام) مرفوعٌ، على أنَّه مبتدأٌ لخبرٍ محذوف، والتقديرُ: فعَليهِ صِيامُ ثلاثةِ أيَّام، أو على أنَّه خبَرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقدير: فواجبُه صِيامُ ثلاثةِ أيَّام، أو مرفوعٌ على أنَّه فاعلٌ لفِعلٍ محذوفٍ، والتقدير: فيَجِبُ عليه صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ [1575] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/236)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/381)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/72)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/275). .

المعنى الإجمالي:

يَنهى اللهُ المؤمنين أن يُحرِّموا على أنفُسِهم طيِّباتٍ أحلَّها لهم، ويَنهاهم أنْ يَتجاوَزوا حُدودَه تعالى فيما أحلَّه لهم، أو حرَّمه عليهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يُحبُّ مَن يَتعدَّى حُدودَه.
كما يَأمرُهم سبحانه أنْ يأكلوا مِن الرِّزقِ الحلالِ الطيِّبِ الذي رزقَهم إيَّاه، وتفضَّل عليهم به، وأن يتَّقوا اللهَ الذي آمَنوا به.
ثم يُخبر الله جلَّ وعلا أنَّه لا يُؤاخِذُ على اللَّغْوِ في اليمينِ، وهو ما يجري على الألْسِنَةِ بدونِ قصدٍ، لكنَّ مُؤاخذتَه تعالى على ما عُقِدَ العزمُ عليه، وقُصِدَ من الأيمانِ، فإذا ما حنَث أحدٌ في أيمانٍ معقودةٍ فكفَّارةُ ذلك أنْ يُطعِمَ عَشَرةَ مساكينَ، طعامًا وسَطًا بين الجيِّد والرَّديءِ ممَّا يُطعِمُ أهلَه منه، أو كسوةُ عَشَرةِ مَساكينَ، أو عِتقُ رَقَبةٍ مؤمنةٍ، فمَن لم يجِدْ ما يكفِّرُ به مِن إطعامٍ أو كساءٍ أو تحريرِ رقبةٍ فعليه حينئذٍ صِيامُ ثلاثةِ أيَّام تكفِّر يمينَه، فهذه الخِصالُ المذكورةُ هي كفَّارةُ الأَيْمانِ المعقودة. ثمَّ أمَر الله عِبادَه بأنْ يَحفظوا أيمانَهم بتَرْك الحَلِف كذبًا، وترْك الإكثارِ من الحَلِف، وعدَم الحِنْث في اليَمينِ إلَّا إذا كان خيرًا، فإذا حنثوا فيها كفَّروا كفَّارةَ اليمينِ، فبذلك تُحفَظُ أيمانُهم، كذلك يُوضِّحُ اللهُ آياتِه لعِبادِه؛ ليَشْكُروه سبحانَه على ذلك.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا تَقدَّم الثناءُ على القِسِّيسين والرُّهبان، وكان مِن سُنَّتِهم المبالغةُ في الزُّهدِ، وقدْ أحْدَثوا رهبانيَّةً من الانقطاعِ عن التَّزُّوجِ، وعن أكْلِ اللُّحومِ، وكثيرٍ من الطيِّبات وغير ذلك- نبَّه اللهُ تعالى المؤمنينَ على أنَّ الثناءَ على الرُّهبان والقِسِّيسين بما لهم مِن الفَضائِلِ لا يَقتضي اطِّرادَ الثناءِ على جميعِ أحوالِهم الرهبانيَّة [1576] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/13). ، فقال عزَّ وجلَّ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، لا تَحكُموا بالحُرمةِ على ما أباحه اللهُ تعالى لكم من مَلذَّاتٍ تَشتهيها النُّفوسُ مِن مناكِحَ ومطاعِمَ ومشارِبَ وغيرِها، فلا تردُّوا نِعمتَه عليكم بعدَمِ قَبولِها، واعتقادِ تَحريمِها، فتَجمعوا بذلك بين الكَذِب على الله تعالى، وكُفرِ نِعمتِه [1577] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/606)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/13، 16)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/299-300). .
قال الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل: 116] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، قال: ((جاءَ ثلاثَةُ رَهْطٍ [1578]  الرَّهْطُ: ما دُونَ عَشَرةٍ مِنَ الرِّجالِ، ليس فيهِم امرأةٌ، وقيل: ما دونَ الأربعينَ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/241)، ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/227). إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسأَلونَ عن عِبادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا أُخْبِروا كأنَّهم تَقالُّوها [1579] تَقَالُّوها: استَقَلُّوها، وهو تفاعُلٌ مِنَ القِلَّة. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/104)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/105). ، فقالوا: أين نحنُ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قدْ غفَر اللهُ له ما تَقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أمَّا أنا فإنِّي أُصلِّي اللَّيلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أَعتزِلُ النِّساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاءَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أنتمُ الذين قُلتُم كذا وكذا؟ أمَا واللهِ إنِّي لَأخشاكم للهِ وأتْقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ؛ فمَن رغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي )) [1580] رواه البخاري (5063) واللفظ له، ومسلم (1401). .
وعن سَعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((أرادَ عُثمانُ بنُ مَظعونٍ أنْ يَتبتَّلَ [1581] أرَاد أنْ يَتبَتَّل: أي: أراد الانقطاعَ عن النِّساء وتَرْكَ النِّكاح. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/94). ، فنهاه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولو أجازَ له ذلِك لاختَصَيْنا )) [1582] رواه البخاري (5073)، ومسلم (1402) واللفظ له. .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: ((أَلمْ أُخبَرْ أنَّكَ تقومُ اللَّيلَ وتصومُ النَّهارَ؟ قلتُ: إنِّي أفعلُ ذلك، قال: فإنَّك إذا فعلتَ ذلِك، هَجَمَتْ [1583] هَجَمَتْ، أي: غَارَتْ ودَخَلَتْ في نُقْرَتِها من الضَّعْفِ. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/247)، ((شرح النووي على مسلم)) (8/45). عَيناكَ، ونَفِهَتْ [1584] نَفِهَت- بكسرِ الفاءِ، وفتْحُها لغةٌ-: أي: أعيتْ وكلَّتْ، وضَعُفَتْ وسَقَطَتْ. ينظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2253)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/100)، ((تاج العروس)) للزبيدي (36/529). نَفْسُكَ! لِعينِكَ حقٌّ، ولنَفْسِكَ حقٌّ، ولأهلِكَ حقٌّ؛ قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأفطِرْ )) [1585] رواه البخاري (1153)، ومسلم (1159) واللفظ له. .
وعن أبي جُحَيفةَ وهْبِ بنِ عبدِ الله السُّوَائِيِّ، قال: ((آخَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزارَ سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأَى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً [1586] مُتَبَذِّلةً: أي: لابِسَةً ثيابَ البِذْلةِ- بكَسرِ الباءِ- وهي: المِهْنَةُ وزنًا ومعنًى، أي: أنَّها تارِكةٌ لِلِباسِ الزِّينةِ. والتَّبَذُّل: تَركُ التَّزَيُّنِ والتَّهَيُّؤ بالهَيئةِ الحَسَنةِ الجَميلةِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/111)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/210). ، فقال لها: ما شأنُكِ؟ قالتْ: أخوك أبو الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدُّنيا، فجاءَ أبو الدَّرداءِ، فصَنَع له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأكُلَ، قال: فأكَل، فلمَّا كان اللَّيلُ ذهَب أبو الدَّرداءِ يَقومُ، قال: نَمْ، فنامَ، ثم ذهَبَ يَقومُ، فقال: نَمْ، فلمَّا كان مِن آخِرِ اللَّيلِ، قال سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فَصلَّيَا، فقالَ له سَلمانُ: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفْسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَر ذلك له، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صَدَق سَلمانُ )) [1587] رواه البخاري (1968). .
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
أي: ولا تُجاوِزوا حدودَ الله تعالى فيما أَحلَّ لكم وحَرَّم عليكم؛ فإنَّ الله تعالى لا يُحبُّ مَن يَتعدَّى حدودَه سُبحانَه [1588] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/606، 607، 615)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/300-301).  وقيل: ذِكرُ الاعتداءِ في مقابلة تحريمِ الطيِّبات يدلُّ على أنَّ المرادَ النهيُ عن تجاوُز حدِّ الإذن المشروع، كما قال: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229] ، فلمَّا نهى عن تحريمِ الحلال أرْدَفَه بالنهيِ عن استحلالِ المحرَّمات، وذلك بالاعتداءِ على حُقوقِ الله تعالى، أو على حُقوقِ النَّاس، فعلى ذلك يكون المراد: كما لا تُحرِّمون الحلالَ فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خُذوا منه بقدْر كِفايتكم وحاجتكم، ولا تجاوزوا الحدَّ فيه، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] ، وقد جعَل ابنُ كثيرٍ هذا المعنى ممَّا تحتملُه الآية. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/172)، وذكره ابن عاشور في ((تفسيره)) (7/17). .
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88).
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا.
أي: وكُلوا- أيُّها المؤمنونَ- مِن رِزق اللهِ تعالى الذي ساقَه إليكم، ويَسَّره لكم في حالِ كونِه حلالًا، غيرَ خَبيثٍ [1589] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/615)، ((تفسير ابن كثير)) (3/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/301). .
كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] .
وقال أيضًا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
أي: واجْعَلوا بينكم وبين غضَبِ الله تعالى وعذابِه حاجزًا يَقيكم مِن ذلك بامتثالِ ما أمَرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، ومِن ذلك اعتداءُ حدودِه؛ فإنَّ إيمانَكم باللهِ عزَّ وجلَّ يُوجِبُ عليكم تقواه [1590] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/616)، ((تفسير ابن كثير)) (3/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/301). .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ...؛ وكان التحريمُ يقعُ في غالِبِ الأحوالِ بأيمانٍ معزومةٍ، أو بأيمانٍ تَجري على اللِّسان لقصدِ تأكيدِ الكلامِ، أو تجري بسبب غضبٍ، عقَّب الله تعالى ذلك بقوله [1591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/18). :
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ.
أي: لا يُعاقِبُكم اللهُ تعالى بكفَّارةٍ تَلزمُكم في الدُّنيا، ولا بعُقوبةٍ تَحُلُّ بِكم في الآخِرة، على الأيْمانِ التي صدَرَتْ منكم على وجهِ اللَّغْو، وهي الأيْمانُ التي حلَف بها المُقسِمُ مِن غير نيَّةٍ ولا قَصْدٍ، أو عقَدَها يظنُّ صِدْقَ نفْسِه، فبان الأمرُ بخِلافِ ما ظنَّه [1592] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/420-421). .
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ قراءات:
1- عَاقَدْتُمُ، أي: تَعاهدتُم، وتحالفتُم، وهو فعلٌ مِن اثنين [1593] قرأ بها ابنُ ذكوان. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 226). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 235)، ((البحر المحيط)) لأبي حيان (4/351). .
2- عَقَدْتُمُ- بتَخفيفِ القافِ-، أي: أوْجَبْتُم، فالمعنى: أوجبتموها على أنْفُسِكم، وعَزَمتْ عليها قلوبُكم، وهذا يدلُّ على أنَّه أراد به عقْدَ مرَّةٍ واحدة؛ لأنَّ مَن حَلَف مرَّةً واحدةً لَزِمَه البِرُّ أو الكفَّارة [1594] قرأ بها حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 226). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (8/616)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 234)، ((الكشف)) لمكي (1/417). .
3- عَقَّدْتُمُ- بتشديد القاف-، أي: وَكَّدتُم، فالتَّشديدُ يدلُّ على كثرةِ الفِعل؛ فهو يدلُّ على توكيدِ اليمينِ بالحَلِفِ على الشيءِ مرارًا [1595] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 226). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/338)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 234)، ((الكشف)) لمكي (1/417)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/353). .
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ.
أي: ولكن يُعاقِبُكم اللهُ تعالى بما عقدتُم العزمَ عليه، وقَصدتموه مِن الأيْمان [1596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/617)، ((تفسير ابن كثير)) (3/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/309). .
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ.
أي: كفَّارةُ ما حَنِثْتُم فيه من اليمينِ المعقودةِ؛ إطعامُ عَشَرةِ مَحاويجَ ليس لدَيهم ما يَكفِيهم، مِن صِنفٍ وَسَطٍ بين الجيِّد والرَّديء، ممَّا تُطعمون أَهْلِيكم [1597] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/217-218). واختارَ أنَّ المراد بـأَوْسَط: أي: وسطٌ بين الجيِّد والرَّديء: القرطبيُّ في ((تفسيره)) (6/276)، وابنُ عُثيمين في ((تفسير سورة المائدة)) (2/310). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلف: ابنُ عُمر، والأسود، وعَبِيدة، والحسن، وابنُ سِيرين، وشُريح. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/624- 626)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/580). وقيل: وسطٌ بين القِلَّة والكثرةِ، وهو اختيارُ ابن جرير في ((تفسيره)) (8/636-637). وممَّن قال بنحو ذلك مِن السَّلف: عُمر، وعليٌّ، وابن عبَّاس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، والضحَّاك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/635)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/579). وقيل: المراد بالأوسط هنا: الأفضل والأجود. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 333). وممَّن قال بذلك من السلفِ: عطاء. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (4/1192). .
أَوْ كِسْوَتُهُمْ.
أي: وإمَّا كسوةُ عَشرةِ مَساكين [1598] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/638)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/310). قال ابنُ جرير: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك عِندنا بالصِّحَّة وأشبهها بتأويل القرآن: قولُ مَن قال: عنَى بقوله: أَوْ كِسْوَتُهُمْ ما وقَع عليه اسمُ كسوة ممَّا يكون ثوبًا فصاعدًا؛ لأنَّ ما دون الثوبِ لا خِلافَ بين جميعِ الحُجَّة أنَّه ليس ممَّا دخل في حُكم الآية، فكان ما دون قدْرِ ذلك خارجًا من أن يكونَ الله تعالى عناه بالنَّقْل المستفيض، والثوب وما فوقه داخلٌ في حُكم الآية؛ إذ لم يأتِ مِن الله تعالى وحيٌ، ولا مِن رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم خبرٌ، ولم يكُن من الأمَّة إجماعٌ بأنَّه غيرُ داخلٍ في حُكمها، وغيرُ جائزٍ إخراجُ ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حُكم الآية إلَّا بحُجَّة يجب التسليمُ لها، ولا حُجَّة بذلك) ((تفسير ابن جرير)) (8/645). وقال ابنُ عثيمينَ: (قوله: أَوْ كِسْوَتُهُمْ معطوفةٌ على إطعام، والكسوةُ ما يكسو به الإنسانُ بدنَه، وتختلفُ الكسوةُ باختلافِ الأزمانِ والبلدانِ والأحوالِ، ولذلك ترون في مواسمِ الحجِّ والعمرةِ اختلافًا كبيرًا في كسوةِ النَّاس، فيرجعُ في هذا إلى العرفِ، ففي بلادِنا الكسوةُ عبارةٌ عن قميصٍ وسروالٍ وغترةٍ وطاقيةٍ، هذه الكسوةُ، وإن نقص شيءٌ مِن ذلك فالكسوةُ ناقصةٌ. وقوله: أَوْ كِسْوَتُهُمْ لم يقيَّد (من أوسط ما تكسون)، فيُؤخذ بما يعدُّ كسوةً) ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/310). .
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ.
أي: أو فكُّ عبدٍ مُؤمنٍ مِن أَسْرِ العُبوديَّة [1599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/645)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/310-311). واشترَط الإيمانَ في الرَّقبة المحرَّرة: الواحديُّ في ((الوجيز)) (ص: 333)، والقرطبيُّ في ((تفسيره)) (6/280)، والسعديُّ في ((تفسيره)) (ص: 242)، وابنُ عثيمين في ((تفسير سوة المائدة)) (2/311). وهذا قول الجمهور خلافًا للحنفية. يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/419)، ((المجموع)) للنووي (17/368)، ((المغني)) لابن قدامة (8/22). .
فمَتَى فعَل واحدًا مِن هذه الثلاثةِ التي هو مخيَّرٌ فيها، فقدِ انحلَّتْ يمينُه [1600] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 242). ونقَل الإجماعَ على التخيير بين هذه الثلاثة: ابنُ جرير في ((تفسيره)) (8/648)، وابنُ كثير في ((تفسيره)) (3/176). .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
أي: فمَن لم يَقْدِرْ على التَّكفيرِ عن يمينِه بواحدةٍ مِن هذه الخِصالِ الثَّلاث، فعليه أنْ يَعدِلَ إلى الصِّيامِ، فيصومَ ثلاثةَ أيَّام [1601] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/650)، ((تفسير ابن كثير)) (3/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/311). .
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ.
أي: هذا الذي ذَكرتُه لكم مِن الخِصالِ الأربعِ (الإطعام، والكسوة، وتحرير رَقبة، والصِّيام)، يُكفِّرُ ما حَنِثتُم فيه من الأيمانِ المعقودةِ [1602] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/655)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/312). .
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ.
أي: واحْفَظوا- أيُّها المؤمنون- أيمانَكم عن الحَلِف باللهِ تعالى كَذِبًا، وعن كثرةِ الحَلِف، وعن الحِنْثِ فيها- إلَّا إنْ كان الحِنثُ خَيرًا- وعن ترْكِ الكفَّارة إذا لزِمَتْكُم [1603] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/655)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/312). .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: كمَا أوضحَ اللهُ تعالى لكم كفَّارةَ أيمانِكم، فإنَّه يُوضِّحُ لكم أيضًا آياتِه الشرعيَّةَ، وأعلامَ دينِه؛ لتَشْكُروه سبحانَه على ذلك حيثُ علَّمكم ما لم تَكونوا تَعلمُون [1604] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/655)، ((تفسير ابن كثير)) (3/177)، ((تفسير السعدي)) (ص: 242-243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/312-313). .

الفوائد التربوية :

1- تَصديرُ الخِطابِ بالنِّداء في قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدلُّ على أهميَّته؛ لأنَّ النِّداءَ يَستلزمُ انتباهَ المخاطَب، وإصدار الخِطابِ بوصْفِ الإيمان يدلُّ على أنَّ ما سيُذكَر مِن خِصال الإيمان، وأنَّ مُخالفتَه نقْصٌ في الإيمانِ، ثم إنَّ فيه إغراءً للامتثالِ؛ لأنَّك إذا وصفْتَ شخصًا بوصْفٍ لتأمُرَه أو تنهاه، فهذا من بابِ الإغراءِ بهذا الوَصْفِ؛ ولذلك تقولُ لشخصٍ: أنتَ رجلٌ؛ كيف تفعل كذا وكذا؟! فقولك: أنت رجل، يَعني: مُقتضى الرُّجولةِ ألَّا تَفعَلَ، وتقول: يا فلان، أنت كريمٌ، وهذا سائلٌ، يعني: فأَعْطِه [1605] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/299). .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ النَّهي إنَّما هو عن تحريمِ ذلك على النَّفْس، أمَّا ترْك تناوُلِ بعضِ ذلك في بعضِ الأوقاتِ من غيرِ التزامٍ، ولقصدِ التربية للنَّفس على التصبُّرِ على الحِرمانِ عند عدم الوِجدانِ، فلا بأسَ به بمقدارِ الحاجةِ إليه في رِياضة النَّفسِ. وكذلك الإعراضُ عن كثيرٍ مِن الطيِّبات للتطلُّعِ إلى ما هو أعْلى؛ من عِبادةٍ أو شُغلٍ بعملٍ نافعٍ، وهو أعْلى الزُّهْدِ، وقد كان ذلك سُنَّةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخاصَّةٍ مِن أصحابِه، وهي حالةٌ تُناسِبُ مرتبتَه، ولا تتناسَبُ مع بعض مراتبِ النَّاس، فالتطلُّعُ إليها تعسيرٌ، وهو مع ذلك كان يتناولُ الطيِّباتِ دون تشوُّفٍ ولا تَطلُّعٍ، وفي تناولها شُكرٌ لله تعالى [1606] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/15). .
3- قال تعالى: وكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ولم يقُل تعالى: (وكلوا ما رزقكم الله)، وكلمة (مِن) للتبعيض، فكأنَّه قال: اقتَصِروا في الأكْل على البعضِ، واصْرِفوا البقيَّةَ إلى الصَّدَقات والخَيْرات؛ لأنَّه إرشادٌ إلى ترْك الإسرافِ، كما قال: وَلَا تُسْرِفُوا [1607] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/418). [الأنعام: 141] .
4- قَوْلُه تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ يدلُّ على أنَّه تعالى قد تكفَّلَ برِزقِ كلِّ أحد؛ فإنَّه لو لم يَتكفَّلْ برِزقه لَمَا قال: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وإذا تكفَّل اللهُ برِزقه وجَبَ ألَّا يُبالَغَ في الطَّلبِ، وأنْ يُعوَّلَ على وعْدِ الله تعالى وإحسانِه؛ فإنَّه أكرمُ مِن أن يُخلِفَ الوعدَ [1608] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/418). والحديث أخرجَه ابنُ ماجه (2144)، والطبرانيُّ في ((المعجم الأوسط)) (3109)، والحاكمُ (2135) من حديث جابرٍ رضي الله عنه.  قال ابنُ عبد البرِّ في ((التمهيد)) (24/435): مُسنَدٌ حسَن. وضَعَّف إسنادَه البُوصِيريُّ في ((مصباح الزجاجة)) (2/6)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2144). والحديث رُوي من طُرقٍ عن أبي أُمامةَ وابنِ مَسعودٍ وحذيفةَ رضي الله عنهم. .
5- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: حَلَالًا طَيِّبًا أنَّ ذلك القيد طَيِّبًا هو قيدٌ مُحذِّر ممَّا فيه شُبهةٌ؛ تنبيهًا على الوَرَع، ويكون معنى طِيبه تيقُّنَ حِلِّه، فيكون بحيث تتوفَّر الدَّواعي على تناوُله دِينًا تَوفُّرَها على تناوُلِ ما هو نهايةٌ في اللَّذةِ شهوةً وطبعًا، وأنْ يكون مُخرِجًا لِمَا تَعافُه النَّفسُ ممَّا أخَذَ في الفساد من الأطعمةِ؛ لئلَّا يضرَّ [1609] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/286). .
6- أنَّ الإيمانَ بالله عزَّ وجلَّ مستلزِمٌ لتقواه؛ لِقَوْلِه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، أي: فلإيمانِكم يَلزمُكم التقوى، فالإيمانُ الحقيقيُّ مستلزِمٌ للتقوى، فمَن لم يَتَّقِ اللهَ، فهو إمَّا فاقدٌ للإيمانِ بالكليَّة، وإمَّا ناقصُ الإيمانِ [1610] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/307). .
7- قَوْلُه تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ في الأمْر بالتَّقوى في هذا المقامِ جمْعٌ بينَ حقوقِ الرُّوحِ والجَسد، وفيها دفْعٌ لِمَن قد يَستشكِل قائلًا: إنَّ الدِّينَ شُرِع لتزكيَةِ النُّفُوس، والتمتُّعُ بالشَّهواتِ واللذَّات يُنافي التزكيةَ، وإنِ اقُتصِرَ فيه على المباحاتِ؛ فكيف يكون الاستمتاعُ بالطيِّباتِ مطلوبًا شرعًا؟!
ووَجْهُ ذلِك الدَّفعِ: أنَّ تزكيةَ الأنفُس إنَّما تكونُ بإيقافِها عندَ حدِّ الاعتدالِ، واجتنابِ التَّفريطِ والإفراط، وقد خلَق اللهُ الإنسانَ مركَّبًا من رُوحٍ مَلكيَّة وجَسَد حيوانيٍّ، فلم يجعلْه مَلَكًا مَحضًا، ولا حيوانًا مَحضًا، وسخَّر له بهذه المزيَّة جميعَ ما في عالَمِه الذي يعيش فيه مِن الموادِّ والقُوى والأحياء، وجعَل مِن سُنَّته في خلْقه أنَّه تكونُ سلامةُ البدن وصحَّتُه من أسباب سلامةِ العقلِ وسائرِ قُوى النَّفْس؛ ولذلك حرَّم عليه ما يضرُّ بجَسَده، كما حرَّم عليه ما يضرُّ برُوحِه وعقلِه، فالتمتُّعُ بالطيِّبات من غيرِ إسرافٍ ولا اعتداءٍ لحدودِ الله وسُننِ فِطرته هو الذي يُؤدَّى به حقُّ الجَسدِ وحقُّ الرُّوح، ويُستعان به على أداءِ حُقوق اللهِ وحُقوقِ خَلْقه، فإنْ صَحِبَتْه التقوى فيه وفي غيرِه تتمَّ التزكيةُ المطلوبةُ [1611] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/25). .
8- قولُه تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ، وفي سورةِ البقرة: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] ، فيه دليلٌ على أنَّ العِبرة بما في القُلوب، وهذا كقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى )) [1612] أخرجه البخاريُّ (1) واللفظ له، ومسلم (1907). ، ويَنبني عليه مسائلُ كثيرةٌ في الأيمانِ والطَّلاقِ والبيوع والأوقافِ وغيرِها [1613] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/314). .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ أنَّه ينبغي تقليلُ الأيمانِ، وحِفظُ اليمينِ عن الحِنْث، هذا إذا لم يكُنْ حلَف بيمينِه على ترْكِ مندوبٍ أو فِعْلٍ مَكروهٍ، فإنْ حلَف على ترْك مندوبٍ أو فِعل مكروهٍ، فالأفضلُ أنْ يَحنثَ في يَمينِه، ويُكَفِّرَ ويأتيَ الذي هو خيرٌ؛ لحديث أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مَن حلَف على يمينٍ فرَأى غيرَها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليُكَفِّرْ عن يمينِهِ )) [1614] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/504)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/289)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/34). والحديث أخرجه مسلم (1650). .
10- أنَّ العِلم مِن نِعَم الله التي يجبُ علينا شُكرُها؛ لأنَّ بيانَ الآياتِ به يَعلمُ الإنسانُ آياتِ الله، فإذا كان اللهُ يُبيِّنها لِنَشْكُرَه عليها، دلَّ ذلك على أنَّ العِلمَ بالشريعةِ وبآياتِ الله نعمَةٌ يجب على الإنسانِ أنْ يَشكُرَها؛ لقول الله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [1615] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/326). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه تعالى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ تنبيهٌ لفُقهاءِ الأمَّة على الاحترازِ في القولِ بتحريم شيءٍ لم يَقُمِ الدليلُ على تحريمِه، أو كان دليلُه غيرَ بالغٍ قوَّةَ دليلِ النَّهي الواردِ في هذه الآيَةِ [1617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/16). .
2- الإشارةُ إلى مِنَّة اللهِ تبارَك وتعالى على عِبادِه بما أحلَّ لهم؛ لِقَوْلِه: طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، ولو شاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ لحرَّم علينا طيباتٍ أُحِلَّت لنا، كما حرَّم ذلك على بني إسرائيلَ؛ حيث قال الله عزَّ وجلَّ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] ، وتحريمُ الطيِّباتِ الشرعيُّ بسببِ الظُّلمِ مِثلُه التحريمُ القَدَريُّ بسبب الظُّلم؛ فإنَّ الإنسانَ قد يُحرَم الطيِّباتِ تحريمًا قدريًّا كالمريضِ الذي يمتنعُ مِن أكلِ اللحمِ؛ لأنَّه يزيدُه مرضًا، وكما يمنعُ اللهُ نباتَ الأرضِ بسببِ المَعاصي، فهذا تحريمٌ قدريٌّ [1618] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/302). .
3- ذهَب بعضُ العُلماء إلى أنَّ مَن حرَّم مأكلًا أو مَشربًا أو شيئًا من الأشياءِ، فإنَّه يجب عليه بذلك كفَّارةُ يمينٍ، كما إذا الْتزمَ ترْكَه باليمينِ، فكذلك يُؤاخَذُ بمجرَّد تحريمِه على نفْسِه إلزامًا له بما الْتَزَمه؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر هذا الحُكم لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ عقَّبه بالآيةِ المبيِّنة لتَكفيرِ اليَمينِ؛ فدلَّ على أنَّ هذا مُنَزَّلٌ منزلةَ اليمينِ في اقتضاءِ التَّكفير، وَكَمَا فِي قَوْلِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التَّحْرِيم: 1]، ثمَّ قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ... [التَّحْرِيم: 2] واللهُ تعالى أعلم [1619] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/171). .
4- خَصَّ الله الأكلَ بالذِّكْرِ في قولِه: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ؛ بعدَ أنْ قال: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...؛ لأنَّ مُعظَمَ ما حرَّمه الناسُ على أنفُسِهم هو المآكِلُ [1620] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/17). .
5- إثباتُ المحبَّة للهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ؛ لأنَّ نفيَه محبَّةَ المعتدِين يدلُّ على ثُبوتِ أصل المَحبَّة، ولو كان لا يُحبُّ مُطلقًا لم يكن لنَفْيِ محبَّته للمعتدينَ فائدةٌ [1621] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/303). .
6- في قولِه تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا أمْرُ الإنسانِ بالأكْلِ ممَّا رزَقَ اللهُ، وضدُّه عدمُ الأكْل، وعدمُ الأكلِ ممَّا رزَق اللهُ ثلاثةُ أقسام: الأوَّل: أن يَترُك الأكلَ مع خوفِ الهلاك إذا لم يأكُلْ، فهنا تركُ الأكْلِ حرامٌ؛ لأنَّه يجبُ على الإنسانِ أن يُنقِذَ نفْسَه. الثاني: إذا كان ليس به ضرورةٌ للأكْلِ لكن يحتاجُ إلى الأكْلِ لتقويةِ البَدنِ، فهنا الأكلُ مُستحَبٌّ؛ لأنَّه لو ترَكَه لم يَهلِك، لكنَّه في حاجةٍ، نقول له: لا تمنعْ نفْسَك. الثالث: أن يَترُكَ الأكلَ تنزُّهًا، فهذا يُنهَى عنه، ويُقال: كُلْ ممَّا أباحَ اللهُ لك [1622] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/305). .
7- سَعةُ حِلم اللهِ وعَفْوِه؛ لِقَوْلِه: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ حيث نفَى المؤاخَذةَ عن اللَّغْو في الأيمانِ؛ وذلك لكثرةِ تَكرارِها، ومَشقَّةِ التحرُّزِ منها، وهذا بناءً على أنَّ المرادَ بها: الأيمانُ التي لا تُقصَد، والتي تكونُ في عَرَضِ الحديثِ [1623] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/313). .
8- قال تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ... احتجَّ الشافعيُّ رضِي اللهُ عنه بآيةِ سورة البقرةِ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 225] مع هذه الآيةِ على وجوبِ الكَفَّارةِ في اليمينِ الغَموسِ، قال: إنَّه تعالى ذَكَر في آية البقرة: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وقال في آية المائدة: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ وعقْدُ اليمين محتمِلٌ لأنْ يكونَ المرادُ منه عقدَ القلبِ به، ولِأنْ يكونَ المرادُ به العَقدَ الذي يُضادُّ الحَلَّ، فلمَّا ذكر في آيَةِ البقرة قولَه: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ عَلِمْنَا أنَّ المرادَ من ذلك العَقْدِ هو عقدُ القَلْبِ، وأيضًا ذَكَر المؤاخذةَ في آية البقرة، ولم يُبيِّن أنَّ تلك المؤاخذةَ ما هي، وبَيَّنها هنا في آيةِ المائدة بقوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ..؛ فبَيَّن أنَّ المؤاخذةَ هي الكفَّارة، فكلُّ واحدةٍ من هاتين الآيتينِ مُجمَلةٌ من وجهٍ، مُبيَّنة من وجهٍ آخَر، فصارتْ كلُّ واحدةٍ منهما مُفسِّرةً للأخرى مِن وَجْهٍ، وحصَل من كلِّ واحدةٍ منهما أنَّ كلَّ يمينٍ ذُكِر على سبيلِ الجِدِّ وربْط القَلْبِ، فالكفَّارةُ واجبةٌ فيه، واليمينُ الغموسُ كذلِك؛ فكانتِ الكفَّارةُ واجبةً فيها [1624] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (6/428)، (12/419). وذهَب أكثرُ أهلِ العلمِ إلى أنَّ اليمينَ الغموسَ لا كفَّارة فيها. ينظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/496). .
9- أنَّه لا يَنبغي الحِنثُ إلَّا إذا كان خيرًا؛ لقوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ والكفَّارةُ لا تكون إلَّا في مقابلةِ ذَنبٍ أو ما يُشبِهه؛ ولهذا قال في آخِر الآيةِ: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [1625] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/318). .
10- قُدِّمَ الإطعامُ على العِتْقِ في قولِه تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مع أنَّ العِتْقَ أفضلُ لا محالةَ؛ وذلك لأمور:
منها: أنَّ المقصودَ منه التنبيهُ على أنَّ هذه الكفَّارةَ وجبتْ على التخييرِ لا على الترتيب؛ لأنَّها لو وجبتْ على الترتيب لوَجبتِ البَداءةُ بالأَغْلَظِ.
ومنها: قُدِّمَ الإطعامُ لأنَّه أسهلُ، ولِكَوْن الطعامِ أعمَّ وُجودًا، والمقصودُ منه التنبيهُ على أنَّه تعالى يُراعي التخفيفَ والتسهيلَ في التكاليف [1626] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/421). .
11- في قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ رقِي مِن الأدْنى إلى الأعلى، فالإطعامُ أيسرُ من الكسوة، كما أنَّ الكسوة أيسرُ مِن العِتْق [1627] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/176). .
12- أنَّ الإطعامَ مُطلَقٌ لا يُشترَطُ فيه التمليكُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يقُلْ: (فللمساكين)، لو قال: (فللمساكين) لكان يُشترَطُ فيه التمليكُ، كما قال في الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة: 60] ، وإنَّما قال: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؛ وذلك لأنَّ الطعامَ يُنتفعُ به مرَّةً واحدةً، فلا يُشترط فيه التمليكُ، أمَّا الكسوة فيُشترط فيها التمليكُ، وإلَّا لكان تُعِيرُه الثوبَ ثم تأخُذُه منه [1628] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/319). .
13- أنَّه لو أطعمَ مَن يأكلُ الطَّعامَ - ولو كان صغيرًا - كفَى؛ لِقَوْلِه: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [1629] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/319). .
14- في قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لو قارنتَ بين إطعامِ عَشَرةِ مساكين وكِسوتهم وعِتق الرَّقبة، لوجدتَ الفَرْقَ كبيرًا، لكنْ للهِ الحِكمة فيما يَشْرَع؛ فلا يُمكن أن يَعترِضَ مُعترِضٌ على حُكْمِه [1630] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/320). .
15- تمامُ عدلِ الله عزَّ وجلَّ في إيجابِ الأوسَطِ؛ لِقَوْلِه: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ فالواجب على الإنسانِ هو الوَسَط؛ فالزكاةُ مثلًا على صاحِب الغَنَم الواجبُ الوَسَط، والزكاة في الثِّمار الواجبُ الوَسَطُ، فإنَّه لو أوْجَب الأكملَ والأعلى، لكان في هذا ضرَرٌ على المعطِي، ولو أوجَبَ الأدْنى لكان فيه ضررٌ على الـمُعطَى، أي: المدفوع إليه، فالوسطُ ليس فيه حَيفٌ لا على مَن يجِبُ عليه، ولا عَلى مَن يجبُ له، وهذا لا شكَّ أنَّه من العدالةِ [1631] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/321، 323). .
16- وجوبُ الإنفاقِ على الأهلِ؛ لِقَوْلِه: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يعني: كأنَّ هذا أمرٌ مُقرَّر؛ أنَّ الرجل يُطعِم أهلَه، وهذا لا شكَّ فيه؛ أنَّه يجب على الرجلِ أن يُنفقَ على أهلِه؛ قال الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [1632] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/321). [النساء: 34] .
17- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: أَوْ كِسْوَتُهُمْ أنَّ الكِسْوةَ مُطلقةٌ، فما سُمِّي كِسْوةً حصَل به الإجزاءُ، وهذا يختلفُ باختلافِ الأحوالِ والأزمانِ والأماكنِ والأُمم [1633] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/32)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/321). .
18- قولُه تعالى: إِذَا حَلَفْتُمْ فيه دقيقةٌ، وهي التنبيهُ على أنَّ تقديمَ الكفَّارةِ قبلَ اليمينِ لا يجوزُ، وأمَّا بعدَ اليمينِ وقبل الحِنث فإنَّه يجوزُ [1634] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/423). .
19- أنَّ تقديرَ العباداتِ كمِّيةً ونوعًا وكيفيَّةً موكولٌ إلى الشَّرْعِ؛ لِقَوْلِه: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ؛ ولذلك لا يَتقابَلُ أو لا يَتساوى إطعامُ عَشَرةِ مَساكينَ مع صِيام ثلاثةِ أيَّام، فكفَّارة الظِّهارِ الواجبُ فيها صيامُ شَهرينِ متتابعينِ، فإنْ لم يجد فإطعامُ سِتِّينَ مِسكينًا، فجاءَ إطعامُ كلِّ فقيرٍ يُقابل صيامَ يومٍ، لكن هنا يختلفُ الوضع، ولعلَّ السبب- والله أعلمُ - أنَّه في كَفَّارة الظِّهار الإطعامُ بدلٌ عن الصيامِ، فمن لم يستطعِ الصيامَ أطعَمَ، وإذا كان بدلًا عن الصِّيام، فالحُكم أنَّ صومَ كلِّ يوم يُطعِمُ عنه مِسكينًا، كما في العاجِزِ عن الصِّيام عجزًا لا يُرجَى زَوالُه، فإنَّه يُطعِمُ عن كلِّ يومٍ مسكينًا، أمَّا في كفَّارةِ اليمينِ وفِديةِ الأذى، فليس الأمرُ كذلك؛ لأنَّ الأمرَ فيهما على التخييرِ، فكلٌّ من خِصال الكفَّارة نوع ٌمستقلٌّ بنفْسِه [1635] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/323). .
20- أنَّ الله سبحانه وتعالى بَيَّنَ لعبادِه من آياته كلَّ ما يحتاجون إليه؛ لِقَوْلِه: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [1636] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/290)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/326). .
21- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ محبَّةُ الله تعالى للشُّكرِ؛ حيث بَيَّنَ الآياتِ لعِبادِه من أجْل أنْ يَشكُروه [1637] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/326). .
22- تعليلُ أحكامِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّها مقرونةٌ بالحِكمة؛ لأنَّ قَوْلَه: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ للتعليلِ، والتعليلُ يُفيد الحِكمةَ؛ فجميعُ أفعالِ اللهِ وأحكامِ اللهِ كلُّها لحِكمةٍ، لكنْ منها ما يُعلَم، ومنها ما لا يُعلَم [1638] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/326). .

بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ:
- قَوْلُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الجملةُ تعليلٌ لِمَا قَبْلَها مِنْ قَوْلِه: وَلَا تَعْتَدُوا [1639] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/416). ، وهي أيضًا جملةٌ تذييليَّة للتي قَبْلَها؛ للتحذيرِ مِن كلِّ اعتداءٍ [1640] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/17). .
2- قَوْلُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ فيه: تأكيدٌ للتَّوصيةِ بما أمَرَ به، وزادَه تأكيدًا بقوله: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ؛ لأنَّ الإيمانَ به يُوجِبُ التقوى في الانتهاءِ إلى ما أمَر، وعمَّا نهى عنه [1641] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/670)، ((تفسير أبي حيان)) (4/350)، ((تفسير أبي السعود)) (3/74)، ((تفسير الشربيني)) (1/394)، ((تفسير ابن عادل)) (7/493). .
3- قَوْلُه: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة:
- قَوْلُه: تَحْرِيرُ رَقَبَة، أي: فتحريرُ الإنسانِ كلِّه؛ ففيه تَسميةُ الكُلِّ (الإنسان) بالجُزءِ (الرَّقبة)؛ وخُصَّتِ الرَّقبةُ مِن الإنسان؛ إذ هو العُضوُ الذي فيه يكونُ الغُلُّ والتُّوثُّقُ غالبًا من الحيوانِ؛ فهو موضعُ الـمِلكِ فأُضيفَ التحريرُ إليها [1642] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/231)، ((تفسير أبي حيان)) (4/354). .
4- قَوْلُه: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ الكفَّارة مبالَغَةٌ في (كفر)، بمعنى ستَر وأزال، وقد جاءتْ فيها دَلالتانِ على المبالغةِ، هما التضعيفُ والتاء الزائدة، كتاء (نسَّابة) و(علَّامة)، والعربُ تجمعُ بينهما غالبًا [1643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/19). .