المَطلبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: كُلُّ ما شُرِط فيه سَلامةُ العاقِبةِ فهو مِن بابِ إزالةِ الضَّرَرِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعمِلت القاعِدةُ بصيغةِ: "النَّهيُ عنِ المُنكَرِ والأمرُ بالمَعروفِ إنَّما يَجِبانِ عِندَ سَلامةِ العاقِبةِ، فلو خاف ضَرَرًا لم يَجِبْ عليه"
[1173] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (1/285). ، وصيغةِ: "الأصلُ أنَّ السَّيرَ والسَّوقَ والقَودَ في طَريقِ العامَّةِ مَأذونٌ فيه بشَرطِ سَلامةِ العاقِبةِ، فما لم تَسلَمْ عاقِبَتُه لم يَكُنْ مَأذونًا فيه"
[1174] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/272). ، وصيغةِ: "التَّعزيرُ جائِزٌ بشَرطِ سَلامةِ العاقِبة، فإن سَرى ضَمِنَت عاقِلةُ المُعَزَّرِ، بخِلافِ الحَدِّ"
[1175] يُنظر: ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1179)، ((العزيز)) للرافعي (11/291)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/321). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ الفِعلَ المَأذونَ فيه إذا كان مُقَيَّدًا بسَلامةِ العاقِبةِ ترَتَّب عليه أثَرُه، ويَجِبُ الضَّمانُ عِندَ التَّعَدِّي وحُصولِ الضَّرَرِ، فما كان مَشروطًا بسَلامةِ العاقِبةِ، كَضَربِ الزَّوجِ لزَوجَتِه، والوليِّ لليَتيمِ، وتَعزيرِ الحاكِمِ، ونَحوِ ذلك، فكُلُّ ذلك إذا تَعَدَّى فهو ضامِنٌ؛ لأنَّ كُلَّ هذه مَشروطٌ فيها السَّلامةُ وعَدَمُ الإفراطِ
[1176] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (4/410)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/416). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الفِعلَ المَأذونَ فيه مِنَ الشَّرعِ إذا كان مَشروطًا بسَلامةِ العاقِبةِ فيَنبَغي ألَّا يُؤَدِّيَ فِعلُه إلى الضَّرَرِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ تَجِبُ إزالتُه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [الأحزاب: 55] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّر المَماليكَ؛ لأنَّ محرَمِيَّتَهم كالأمرِ الضَّروريِّ، وإلَّا فالمَفسَدةُ في التَّكَشُّفِ لهم ظاهِرةٌ؛ ولهذا عَقَّبه بقَولِه:
وَاتَّقِينَ؛ فإنَّ التَّكَشُّفَ لهم مَشروطٌ بشَرطِ سَلامةِ العاقِبةِ، والأمنِ مِنَ الفِتنةِ
[1177] يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (5/474). .
2- مِنَ الإجماعِ:فقد نُقِل الإجماعُ على عَدَمِ جَوازِ بَيعِ الوَصيِّ مالَ الصَّبيِّ إذا لم يَكُنْ له فيه نَفعٌ
[1178] يُنظر: ((موسوعة الإجماع)) لمجموعة من الباحثين (2/135). ، ومِمَّن نَقَله الكاسانيُّ
[1179] قال: (أمَّا الوصيُّ إذا باعَ مالَ نَفسِه مِنَ الصَّغيرِ، أوِ اشتَرى مالَ الصَّغيرِ لنَفسِه، فإن لم يَكُنْ فيه نَفعٌ ظاهرٌ، لا يَجوزُ بالإجماعِ). ((بدائع الصنائع)) (5/136). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- يَضمَنُ الزَّوجُ إذا أفضى تَأديبُه لزَوجَتِه إلى المَوتِ؛ لأنَّ تَأديبَ الزَّوجةِ إذا تَعَيَّنَ سَبيلًا لمَنعِ نُشوزِها فإنَّه مَشروطٌ بأن يَكونَ غَيرَ مُبَرِّحٍ، فإذا تَرَتَّبَ عليه المَوتُ تَبَيَّنَ أنَّه قد جاوزَ الفِعلَ المَأذونَ فيه، فيَجِبُ عليه الضَّمانُ، ولأنَّه غَيرُ واجِبٍ، فشُرِطَ فيه سَلامةُ العاقِبةِ، ولو كانتِ المَرأةُ لا تَترُكُ النُّشوزَ إلَّا بضَربٍ مَخوفٍ، لم يَجُزْ تَعزيرُها أصلًا
[1180] يُنظر: ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1179)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (10/25). .
2- تَحريمُ بَيعِ الوَصيِّ مالَ نَفسِه على الصَّغيرِ الذي لم يَكُنْ له فيه نَفعٌ ظاهِرٌ، وكَذا شِراؤُه. والوَصيُّ هو مَن يَعهَدُ إليه الأبُ أوِ الجَدُّ أوِ القاضي بالتَّصَرُّفِ بَعدَ مَوتِ الأبِ أوِ الجَدِّ فيما كان له التَّصَرُّفُ فيه في حَياتِه مِن شُؤونِه، كَقَضاءِ دُيونِه واقتِضائِها، ورَدِّ المَظالمِ والودائِعِ، واستِردادِها، وتَنفيذِ وصاياه، والوِلايةِ على أولادِه الذينَ له الوِلايةُ عليهم مِن أطفالٍ ومَجانينَ وسُفهاءَ، والنَّظَرِ في أموالِهم بحِفظِها وغَيرِ ذلك. وهذا الوصيُّ لا يَجوزُ له أن يَبيعَ مالَ نَفسِه على الصَّبيِّ -الذي هو وصيٌّ عليه- وليسَ له أن يَشتَريَ مالَ الصَّبيِّ لنَفسِه، إذا لم يَكُنْ للصَّبيِّ في هذا البَيعِ والشِّراءِ مَنفعةٌ ظاهرةٌ، تَتَحَقَّقُ فيها مَصلَحةٌ له
[1181] يُنظر: ((موسوعة الإجماع)) لمجموعة من الباحثين (2/135). .
3- السَّيرُ بالسَّيَّاراتِ في الطُّرُقِ العامَّةِ مَشروطٌ بسَلامةِ العاقِبةِ حتَّى لا يَتَضَرَّرَ مِنه أحَدٌ، فإذا تَضَرَّرَ مِنه أحَدٌ كان الضَّرَرُ مَضمونًا. قال الكاسانيُّ: (الأصلُ أنَّ السَّيرَ والسَّوقَ والقَودَ في طَريقِ العامَّةِ مَأذونٌ فيه بشَرطِ سَلامةِ العاقِبةِ، فما لم تَسلَمْ عاقِبَتُه لم يَكُنْ مَأذونًا فيه، فالمُتَولِّدُ مِنه يَكونُ مَضمونًا، إلَّا إذا كان مِمَّا لا يُمكِنُ الاحتِرازُ عنه بسَدِّ بابِ الاستِطراقِ على العامَّةِ، ولا سَبيلَ إليهـ)
[1182] ((بدائع الصنائع)) (7/272). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَلي:
1- لا يَضمَنُ المالِكُ التَّصَرُّفَ المُعتادَ في مِلكِه، أي: ما يَتَولَّدُ مِنه؛ إذ لكُلِّ أحَدٍ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه بالمَعروفِ، ولا يَتَقَيَّدَ بسَلامةِ العاقِبة؛ لئَلَّا يُؤَدِّيَ إلى حَرَجٍ عَظيمٍ، ويَنجَرَّ إلى بُطلانِ فائِدةِ المِلكِ
[1183] يُنظر: ((أسنى المطالب)) (4/72)، ((الغرر البهية)) (5/7) كلاهما لزكريا الأنصاري. .
2- لو طَرَحَ قُمامةً أو قِشرَ بِطِّيخٍ أو نَحوَه في مَوضِعِ المَزبَلةِ العامِّ، لم يَضمَنْ ما تَلِفَ بشَيءٍ مِنها؛ لاطِّرادِ العُرفِ بالمُسامَحةِ بذلك مَعَ الحاجةِ إليه
[1184] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/73). .