موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّامِنَ عَشَرَ: عِبارةُ الصَّبيِّ فيما يتَضَرَّرُ به مُلحَقةٌ بالعَدَمِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "عِبارةُ الصَّبيِّ فيما يتَضَرَّرُ به مُلحَقةٌ بالعَدَمِ" [1164] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/334)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/166)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/182)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (17/178). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
عِبارةُ الصَّبيِّ فيما يتَضَرَّرُ به مُلحَقةٌ بالعَدَمِ؛ لنُقصانِ عَقلِه، فلم تَصِحَّ عِبارَتُه مِنَ الأصلِ، فهيَ باطِلةٌ، والباطِلُ لا حُكمَ له؛ ولذلك ذَهَبَ عامَّةُ الفُقَهاءِ إلى بُطلانِ تَصَرُّفاتِ الصَّبيِّ غَيرِ المُمَيِّزِ مِن بَيعٍ وشِراءٍ وغَيرِ ذلك مُطلقًا، سَواءٌ أَذِنَ له الوليُّ أو لم يَأذَنْ. وعَلَّلوا ذلك بأنَّ عِبارَتَه مُلغاةٌ لا اعتِدادَ بها شَرعًا، فلا تَصِحُّ بها عِبادةٌ، ولا تَجِبُ بها عُقوبةٌ، ولا يَنعَقِدُ مَعَها بَيعٌ أو شِراءٌ، حتَّى تلك العِباداتُ التي تَصِحُّ مِنه -كالحَجِّ والعُمرةِ- لا تَصِحُّ مِنه النِّيَّةُ، وإنَّما يَنوي عنه وليُّه؛ لأنَّ التَّمييزَ إذا فُقِدَ لم يَصِحَّ مِنه قَصدُ النِّيَّةِ، ولم يَقَعْ مِنه رِضًا [1165] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/334)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (1/519). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ عِبارةَ الصَّبيِّ فيما ليسَ مِن مَصلحَتِه ضَرَرٌ به، فكانت مُلحَقةٌ بالعَدَمِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ تَجِبُ إزالتُه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((رُفِعَ القَلمُ عن ثَلاثٍ: عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ المَجنونِ حتَّى يُفيقَ)) [1166] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3987)، والبيهقي (21624) باختلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، وحَسَّنه ابنُ القَيِّمِ في ((أحكام أهل الذمة)) (2/902)، وصَحَّحَ إسنادَه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (3987). ورُوِيَ عن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ: لقد عَلِمتُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ المَعتوهِ حتَّى يَبرَأَ)). أخرجه أبو داود (4402) واللَّفظُ له، وأحمد (1328) بنحوه. صَحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/767)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4402)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4402). .
والحَديثُ واضِحُ الدَّلالةِ على عَدَمِ صِحَّةِ تَصَرُّفاتِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ [1167] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/508). .
2- مِنَ الإجماعِ:
نُقِل الإجماعُ على عَدَمِ صِحَّةِ بَيعِ الصَّبيِّ غَيرِ المُمَيِّزِ، ومِمَّن نَقَله ابنُ حَزمٍ [1168] قال: (اتَّفقوا أنَّ بَيعَ مَن لم يَبلُغْ لِما لم يُؤمَرْ به، ولا اضطُرَّ إلى بَيعِه لقُوتِه: باطِلٌ، وأنَّ ابتياعَه كَبَيعِه في كُلِّ ذلك). ((مراتب الإجماع)) (ص: 84). ، وابنُ بَزِيزةَ [1169] قال: (لم يَختَلفِ العُلماءُ أن بَيعَ الصَّغيرِ والمَجنونِ باطِلٌ؛ لعَدَمِ التَّمييزِ). ((روضة المستبين)) (2/904). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لا يُخَيَّرُ الصَّبيُّ بَينَ أبَوَيه قَبلَ بُلوغِ الصَّبيِّ سِنَّ التَّمييزِ، وتُقَدَّمُ الأُمُّ في الحَضانةِ، أو تُقَدِّمُ غَيرَها مِنَ الإناثِ، وليسَ هذا مِمَّا يَتَطَرَّقُ إليه القياسُ؛ فإنَّ عِبارةَ الصَّبيِّ مُستَلَبةٌ، وإنَّما تُعتَمَدُ عِبارَتُه فيما يَتَعَلَّقُ بإعرابِه عن حاجاتِ نَفسِه؛ إذ لا اطِّلاعَ عليها إلَّا مِن جِهَتِه، فلا رُجوعَ إلَّا إليه، فأمَّا الاختيارُ بَينَ الأبَوينِ فليسَ مِن هذا [1170] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (15/546). .
2- لا يَنعَقِدُ البَيعُ بعِبارةِ الصَّبيِّ لا لنَفسِه ولا لغَيرِه؛ لأنَّه غَيرُ مُمَيِّزٍ، فرُبَّما يُخدَعُ، إلَّا أن يَجريَ عُرفٌ بأنَّ الصَّبيَّ إذا جاءَ يَحمِلُ مَعَه مَبلغًا يَسيرًا لا يَتَطَلَّعُ إليه غالِبُ النَّاسِ، وجاءَ إلى البَقَّالِ ليَشتَريَ له حَلوى كَعادةِ الصِّبيانِ، وكان عُرفُ النَّاسِ أن يَبيعوا الشَّيءَ الذي يُشيرُ إليه، ولم يَكُنْ في هذا ضَرَرٌ عليه في تَناوُلِه -أن يَبيعَه صاحِبُ الدُّكَّانِ، ولو لم يَأخُذْ إذنًا صَريحًا، على أنَّ وَليَّه إن رَفَض بَعدَ ذلك ولم يَفُتِ المَبيعُ كان له حَقُّ إرجاعِه [1171] يُنظر: ((فتح العزيز)) للرافعي (8/106)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/344)، ((منح الجليل)) لعليش (4/438)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (1/520). .
3- لا يَصِحُّ عَفوُ الصَّبيِّ عنِ الدِّيةِ؛ إذ إنَّه لا يَصِحُّ عَفوُه عنِ المالِ بحالٍ؛ لأنَّ عِبارَتَه مُلغاةٌ [1172] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/448). .

انظر أيضا: