موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ السَّابعَ عَشَرَ: الضَّرَرُ اليَسيرُ يُحتَمَلُ في العُقودِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الضَّرَرُ اليَسيرُ يُحتَمَلُ في العُقودِ" [1150] يُنظر: ((القواعد النورانية)) لابن تيمية (ص: 199)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 58). ، وصيغةِ: "الغَرَرُ اليَسيرُ يُحتَمَلُ في العُقودِ" [1151] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/58). ، وصيغةِ: "الغَرَرُ اليَسيرُ جائِزٌ في العُقودِ" [1152] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (5/115). ، وصيغةِ: "الغَرَرُ اليَسيرُ مُغتَفَرٌ في العُقودِ" [1153] يُنظر: ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (11/301). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
يُغتَفَرُ الضَّرَرُ اليَسيرُ الذي لا يَستَمِرُّ مِن أجلِ تَحصيلِ المَنفعةِ؛ فإنَّه ما مِن عَقدٍ ماليٍّ إلَّا ويَكونُ اشتِراطُ الفُقَهاءِ حيالَه بألَّا يَحتَويَ على ما يُؤَدِّي إلى المُنازَعةِ والاختِلافِ؛ لِما في ذلك مِن تَضييقٍ وعَرقَلةٍ لمُهمَّةِ التَّبادُلِ التي لا يَستَغني عنها النَّاسُ، وفي سَبيلِ تَحقيقِ هذا المَطلَبِ نَجِدُ أنَّ الضَّرَرَ اليَسيرَ يُحتَمَلُ، والغَبنَ اليَسيرَ يُحتَمَلُ، والعُيوبُ اليَسيرةُ الهَيِّنةُ لا تُعَرقِلُ في مُعظَمِ الحالاتِ إتمامَ الصَّفقاتِ ونَفاذَها.
وإنَّما كان الضَّرَرُ اليَسيرُ مُغتَفَرًا شَرعًا في عُقودِ المُعاوَضاتِ الماليَّةِ مِن أجلِ رَفعِ الحَرَجِ عنِ النَّاسِ؛ نَظَرًا لعُسرِ نَفيِه في المُعامَلاتِ بالكُلِّيَّةِ، ولغَرَضِ تَحقيقِ أصلٍ تَشريعيٍّ مُهمٍّ، وهو استِقرارُ التَّعامُلِ بَينَ النَّاسِ، بخِلافِ الغَبنِ الفاحِشِ، والغَرَرِ الفاحِشِ؛ فإنَّهما مَمنوعانِ في أبوابِ البُيوعِ والمُعامَلاتِ.
والحَدُّ الفاصِلُ بَينَ الضَّرَرِ اليَسيرِ والكَبيرِ هو الثُّلُثُ، فما زادَ عليه يُعتَبَرُ خَسارةً فادِحةً خارِجةً على المُعتادِ، والتَّقديرُ بالثُّلثِ يَرجِعُ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَله حدًّا فاصِلًا بَينَ الضَّرَرِ المُؤثِّرِ في الحُكمِ، وبَينَ الضَّرَرِ اليَسيرِ الذي لا يُؤَثِّرُ، فرَدُّ الوصيَّةِ بما زادَ على الثُّلثِ إنَّما كان لمَنعِ الإضرارِ بالورَثةِ، يُفسِّرُ ذلك قَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الحَديثِ: ((الثُّلُثُ، والثُّلثُ كَثيرٌ؛ إنَّك أن تَذَرَ وَرَثَتَك أغنياءَ خَيرٌ مِن أن تَذَرَهم عالةً يَتَكَفَّفونَ النَّاسَ )) [1154] أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628) واللَّفظُ له من حديثِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ لهذا كان ما دونَ الثُّلُثِ يُعتَبَرُ أمرًا غَيرَ مُؤَثِّرٍ [1155] يُنظر: ((البدر التمام)) للمغربي (6/119)، ((التضخم والربط القياسي)) لشوقي دنيا، منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (8/1603)، ((مفهوم كساد النقود الورقية)) لناجي عجم، منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/1068)، ((نسبة التضخم المعتبرة في الديون)) لعبد الله بن بيه، منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (12/1714). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الضَّرَرَ اليَسيرَ واقِعٌ في غالِبِ العُقودِ، فيَكونُ في اشتِراطِ رَفعِه جُملةً في جَميعِ العُقودِ ضَرَرٌ على النَّاسِ، والضَّرَرُ يُزالُ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مِن مَبادِئِ الشَّريعةِ العامَّةِ المُجمَعِ عليها رَفعَ الحَرَجِ، ومِمَّا لا شَكَّ فيه أنَّ العُقودَ كُلَّها شُرِعَت لحاجةِ النَّاسِ إليها، ومَنعُ النَّاسِ مِنَ العُقودِ التي هم في حاجةٍ إليها يَجعَلُهم في حَرَجٍ؛ ولهذا كان مِن عَدلِ الشَّارِعِ ورَحمَتِه بالنَّاسِ أن أباحَ لهمُ العُقودَ التي يَحتاجونَ إليها، ولو كان فيها شَيءٌ مِنَ الغَرَرِ [1156] يُنظر: ((المعاملات المالية)) للدبيان (3/506). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن باعَ نَخلًا قد أُبِّرَت [1157] أي: لُقِّحَت. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 74). قال النَّوويُّ: (هو أن يُشَقَّ طَلعُ النَّخلةِ ليُذَرَّ فيه شَيءٌ مِن طَلعِ ذَكَرِ النَّخلِ). ((شرح مسلم) (10/ 190). فثَمَرُها للبائِعِ، إلَّا أن يَشتَرِطَ المُبتاعُ )) [1158] أخرجه البخاري (2204) واللَّفظُ له، ومسلم (1543). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَحكُمْ ببُطلانِ البَيعِ؛ لأنَّ الغَرَرَ اليَسيرَ يُحتَمَلُ في العُقودِ، كَما في بَيعِ النَّخلِ وعليها ثَمَرٌ قد لُقِّحَ ولم يَبْدُ صَلاحُه، فإنَّه يَجوزُ، وإن لم يَجُزْ إفرادُه بالعَقدِ [1159] يُنظر: ((القواعد النورانية)) (ص: 199)، ((مجموع الفتاوى)) (29/58) كِلاهما لابنِ تيميَّةَ. .
3- مِنَ الإجماعِ:
نُقِل الإجماعُ على جَوازِ الغَرَرِ اليَسيرِ في العُقودِ، ومِمَّن نَقَله: النَّوَويُّ [1160] قال: (أجمَعَ المُسلمونَ على جَوازِ أشياءَ فيها غَرَرٌ حَقيرٌ، مِنها أنَّهم أجمَعوا على صِحَّةِ بَيعِ الجُبَّةِ المَحشوَّةِ وإن لم يُرَ حَشوُها، ولو بِيعَ حَشوُها بانفِرادِه لم يَجُزْ. وأجمَعوا على جَوازِ إجارةِ الدَّارِ والدَّابَّةِ والثَّوبِ ونَحوِ ذلك شَهرًا مَعَ أنَّ الشَّهرَ قد يَكونُ ثَلاثينَ يَومًا وقد يَكونُ تِسعةً وعِشرينَ. وأجمَعوا على جَوازِ دُخولِ الحَمَّامِ بالأُجرةِ مَعَ اختِلافِ النَّاسِ في استِعمالهمُ الماءَ وفي قَدرِ مُكثِهم. وأجمَعوا على جَوازِ الشُّربِ مِنَ السِّقاءِ بالعِوَضِ مَعَ جَهالةِ قَدرِ المَشروبِ واختِلافِ عادةِ الشَّارِبينَ). ((شرح مسلم)) (10/156). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- العَيبُ اليَسيرُ عُرفًا عِندَ التُّجَّارِ يُحتَمَلُ في العُقودِ، كَرَجُلٍ اشتَرى سِلعةً ووجَدَ فيها عَيبًا يَسيرًا، فهذا ضَرَرٌ يَسيرٌ في العُقودِ، فيُحتَمَلُ [1161] يُنظر: ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 58). .
2- جَوازُ بَيعِ المُغَيَّباتِ في الأرضِ: كالجَزَرِ، والفُجْلِ، ونَحوِ ذلك مِمَّا يَقِلُّ غَرَرُه، بحَيثُ يُحتَمَلُ في العُقودِ [1162] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (4/22). .
3- الجَهلُ بأساسِ البناءِ، ورَداءةِ بَواطِنِ الفواكِهِ: مَعفوٌّ عنه، ومَعدودٌ في حُكمِ العَدَمِ، ولو لم يُقَدَّرْ كذلك لامتَنَعَ البَيعُ والشِّراءُ، ووقَعَ النَّاسُ في الحَرَجِ [1163] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/663). .

انظر أيضا: