المَطلبُ السَّادِسَ عَشَرَ: التَّفاسُخُ في العُقودِ الجائِزةِ مَتى تَضَمَّن ضَرَرًا على أحَدِ المُتَعاقِدَينِ أو غَيرِهما -مِمَّن له تَعَلُّقٌ بالعَقدِ- لم يَجُزْ، ولم يَنفُذْ إلَّا أن يُمكِنَ استِدراكُ الضَّرَرِ بضَمانٍ أو نَحوِه، فيَجوز على ذلك الوَجهِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "التَّفاسُخُ في العُقودِ الجائِزةِ مَتى تَضَمَّن ضَرَرًا على أحَدِ المُتَعاقِدَينِ أو غَيرِهما -مِمَّن له تَعَلُّقٌ بالعَقدِ- لم يَجُزْ، ولم يَنفُذْ إلَّا أن يُمكِنَ استِدراكُ الضَّرَرِ بضَمانٍ أو نَحوِه، فيَجوز على ذلك الوَجهِ"
[1143] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/456)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 114)، ((شركات العقد)) لصالح البقمي (ص: 110). .
واستُعمِلَت بصيغةِ: "لا يَجوزُ التَّفاسُخُ في العُقودِ الجائِزةِ مَتى تضَمَّن ضَرَرًا على أحَدِ المُتَعاقِدَينِ أو غَيرِهما -مِمَّن له تَعَلُّقٌ بالعَقدِ- إلَّا إذا أمكَنَ تَدارُكُ هذا الضَّرَرِ"
[1144] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/341). .
وبصيغةِ: "العُقودُ الجائِزةُ إذا اقتَضى فَسخُها ضَرَرًا على الآخَرِ امتَنَعَ وصارَت لازِمةً"
[1145] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/401)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (3/76). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالتَّفاسُخُ: هو رَفعُ العَقدِ بإرادةِ مَن له حَقُّ الرَّفعِ، وإزالةُ جَميعِ آثارِه. والمُرادُ بالعَقدِ الجائِزِ ما كان للعاقِدِ فسخُه بكُلِّ حالٍ، ويُطلَقُ عليه غَيرُ اللَّازِمِ.
والأصلُ في العُقودِ اللُّزومُ؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، ولأنَّ العُقودَ إنَّما شُرِعَت لتَحصيلِ المَقصودِ مِنَ المَعقودِ به، أوِ المَعقودِ عليه، ورَفعِ الحاجاتِ، وهذا يُناسِبُه اللُّزومُ، إلَّا أنَّه لمَّا كان أصلُ مَشروعيَّةِ العُقودِ مِن أجلِ تَحقيقِ مَصلحةِ المُكَلَّفينَ، وكانتِ المَصلحةُ في بَعضِ العُقودِ تَتَحَقَّقُ بجَعلِها لازِمةً، وفي بَعضِها تَتَحَقَّقُ بجَعلِها جائِزةً، كانت في الشَّرعِ كذلك. والقاعِدةُ المَذكورةُ هنا هيَ تَقييدٌ لجَوازِ فَسخِ العُقودِ الجائِزةِ بألَّا يَتَضَمَّنَ الفَسخُ إضرارًا بأحَدِ المُتَعاقِدَينِ، أو بمَن له تَعَلُّقٌ بالعَقدِ، بحَيثُ إذا وُجِدَ الضَّرَرُ لم يَصِحَّ الفسخُ، ويُستَثنى مِن ذلك ما لو أمكَنَ تَدارُكُ الضَّرَرِ بضَمانٍ أو نَحوِه، فإنَّه يَجوزُ الفَسخُ حينَئِذٍ مَعَ حُصولِ الضَّرَرِ.
وقد تَضَمَّنَت هذه القاعِدةُ ثَلاثَ قَواعِدَ:
1- إذا لم يَتَضَمَّنْ فَسخُ العَقدِ الجائِزِ ضَرَرًا جازَ.
2- إذا تَضَمَّنَ فَسخُ العَقدِ الجائِزِ ضَرَرًا لا يُمكِنُ تَدارُكُه لم يَجُزْ فَسخُه.
3- إذا أمكَنَ تَدارُكُ الضَّرَرِ المُتَرَتِّبِ على فسخِ العَقدِ الجائِزِ جازَ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّه لا يَحِلُّ لأحَدِ المُتَعاقِدَينِ في الشِّركِ والمُضارَباتِ الفَسخُ مَعَ كَتمِ شَريكِه؛ لأنَّه ذَريعةٌ إلى الإضرارِ، وهو تَعطيلُ المالِ عنِ الفوائِدِ والأرباحِ، وإذا لم يَتَرَتَّبْ على الفَسخِ ضَرَرٌ بأحَدِ المُتَعاقِدَينِ ولا غَيرِهما نَفَذَ؛ لأنَّه حَقٌّ للمُتَعاقِدَينِ، وهو لا يُرَتِّبُ أضرارًا، فكان نافِذًا، وإذا أمكَنَ تَدارُكُ الضَّرَرِ المُتَرَتِّبِ على الفَسخِ نَفَذَ، وإذا لم يُمكِنْ تَدارُكُ الضَّرَرِ المُتَرَتِّبِ على فسخِ العَقدِ لم يَنفُذْ؛ تَفاديًا للضَّرَرِ المُتَرَتِّبِ عليه، وإذا لم يَنفُذِ الفَسخُ كان العَقدُ ساريَ المَفعولِ ومُرَتِّبًا لآثارِه مِن صِحَّةِ التَّصَرُّفِ، والضَّمانِ، ونَحوِ ذلك
[1146] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/461)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبدالكريم اللاحم (ص: 197-200)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/341)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (7/389). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ فسخَ العَقدِ لا يَجوزُ إذا تَضَمَّنَ ضَرَرًا -لا يُمكِنُ تَدارُكُه- على أحَدِ المُتَعاقِدَينِ أو غَيرِهما؛ لأنَّ الضَّرَرَ يُزالُ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- فَسخُ الوكيلِ للوِكالةِ في الخُصومةِ بَعدَما يَتَبَيَّنُ له توجُّهُ الدَّعوى على موكِّلِه، فإنَّه سَيُرَتِّبُ ضَرَرًا لا يُمكِنُ تَدارُكُه على الطَّرَفِ الآخَرِ في تَأخيرِ الفَصلِ في الدَّعوى، والحُصولِ على الحَقِّ؛ ولذا يَرى بَعضُ العُلماءِ عَدَمَ انفِساخِ الوِكالةِ في هذه الحالةِ، وإلزامَ الوكيلِ بإنهاءِ الدَّعوى
[1147] يُنظر: ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبدالكريم اللاحم (ص: 199). .
2- يَجوزُ فَسخُ عَقدِ الجَعالةِ، لكِن يَستَحِقُّ العامِلُ أُجرةَ المِثلِ؛ لبُطلانِ المُسَمَّى بالفَسخِ، فإذا عَمِل به أحَدٌ مُستَنِدًا إليه استَحَقَّ أُجرةَ المِثلِ، كَما لو سَمَّى له تَسميةً فاسِدةً
[1148] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/457). .
3- عَقدُ الشَّرِكةِ بَعدَ تَمامِه عَقدٌ جائِزٌ، يَحِقُّ لكُلِّ واحِدٍ مِنَ الشَّريكَينِ فَسخُه كالوِكالةِ، وفي حُكمِ الفَسخِ انسِحابُ الشَّريكِ مِنَ الشَّرِكةِ، لكِن يُشتَرَطُ للفَسخِ عِلمُ الشَّريكِ الآخَرِ بالفَسخِ؛ لأنَّ الفَسخَ مِن غَيرِ عِلمِ الشَّريكِ إضرارٌ به، والضَّرَرُ مَمنوعٌ؛ فجَوازُ الفَسخِ مُقَيَّدٌ بعَدَمِ الإضرارِ بالشُّرَكاءِ، وبالمُتَعامِلينَ مَعَ الشَّرِكةِ، فإذا لم يَكُنْ هناكَ ضَرَرٌ على أحَدٍ مِنَ الشُّرَكاءِ، أو على المَصلحةِ العامَّةِ، فحُكمُ الشَّرِكةِ هو الجَوازُ، أمَّا إذا كان يَتَرَتَّبُ على فَسخِ الشَّرِكةِ ضَرَرٌ على أحَدِ الشُّرَكاءِ أو على المَصلحةِ العامَّةِ للأُمَّةِ، فإنَّه يَعرِضُ للشَّرِكةِ اللُّزومُ إلى حينِ إمكانِ ارتِفاعِ هذا الضَّرَرِ، سَواءٌ بانتِهاءِ سَنةٍ ماليَّةٍ يُمكِنُ تَصفيةُ مَوجوداتِ الشَّرِكةِ فيها، أو بانتِهاءِ أعمالِها. ويَظهَرُ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ واضِحًا في الشَّرِكاتِ التي تَتَشابَكُ فيها مَصالِحُ الشَّرِكةِ بمَصالِحِ الأُمَّةِ، كَأن تَتَوسَّعَ أعمالُها في الصِّناعةِ والتِّجارةِ، ولا سيَّما في الشَّرِكاتِ التي يَقومُ عليها اقتِصادُ البلادِ، ويُصيبُ فَسخُها الصَّالحَ العامَّ بالضَّرَرِ البالغِ
[1149] يُنظر: ((شركات العقد)) لصالح البقمي (ص: 109). .