موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ العِشرونَ: إضرارُ الحَيَوانِ حَرامٌ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "إضرارُ الحَيَوانِ حَرامٌ" [1185] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/171)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/14)، ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) (5/158)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (4/178). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ إضرارَ الحَيَوانِ بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ الإيذاءِ حَرامٌ، وإن لم يَتلَفْ، فالواجِبُ أن تُستَعمَلَ البَهائِمُ فيما خُلِقَت له بما جَرَتِ العادةُ باستِعمالِها فيه؛ فإنَّ مَن تَأمَّل أحكامَ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ وجَد أنَّها جَعَلت للبَهائِمِ والحَيَواناتِ حُقوقًا على الإنسانِ؛ مِنها: أن يُنفِقَ عليها نَفقةَ مِثلِها، وألَّا يُحَمِّلها ما لا تُطيقُ، وأن يُحسِنَ ذَبحَها إذا ذَبَحَها، وألَّا يَذبَحَ أولادَها بمَرأًى مِنها، وأن يُحسِنَ مَبارِكَها وأعطانَها [1186] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/167)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/529). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ إضرارَ الحَيَوانِ نَوعٌ مِنَ الضَّرَرِ، فلا يَجوزُ إلحاقُه بالحَيَوانِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ تَجِبُ إزالتُه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
1- عن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ثِنتانِ حَفِظتُهما عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلتُم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ، وليُحِدَّ أحَدُكُم شَفرَتَه، فليُرِحْ ذَبيحَتَه )) [1187] أخرجه مسلم (1955). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر بالإحسانِ ثُمَّ فرَّعَ على ذلك، فقال: ((فإذا قَتَلتُم))، وإنَّما فرَّعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا والذي بَعدَه على ما قَبلَه، وخَصَّهما بالذِّكرِ مَعَ أنَّ صُوَرَ الإحسانِ لا تَنحَصِرُ؛ لأنَّهما الغايةُ في إيذاءِ الحَيَوانِ، فإذا طُلبَ الإحسانُ فيهما مَعَ كَونِهما الغايةَ في الأذى فغَيرُهما مِن أنواعِ الإيذاءِ أَحرى [1188] يُنظر: ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 342)، ((فيض القدير)) للمناوي (2/245). .
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تُصبَرَ البَهائِمُ)) [1189] أخرجه البخاري (5513)، ومسلم (1956) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:
صَبرُ البَهائِمِ هو: أن تُحبَسَ وهيَ حَيَّةٌ لتُقتَلَ بالرَّميِ ونَحوِه، وهو مَعنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَتَّخِذوا شَيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا )) [1190] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ بَعدَ حَديث (5515)، وأخرجه مَوصولًا مُسلم (1957) واللَّفظُ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، أي: لا تَتَّخِذوا الحَيَوانَ الحَيَّ غَرَضًا تَرمونَ إليه، وهذا النَّهيُ للتَّحريمِ؛ ولهذا قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رِوايةِ ابنِ عُمَرَ: ((لعنَ اللهُ مَن فَعَل هذا)) [1191] أخرجها مُسلم (1958). ، ولأنَّه تَعذيبٌ للحَيَوانِ، وإتلافٌ لنَفسِه، وتَضييعٌ لماليَّتِه، وتَفويتٌ لذَكاتِه إن كان مُذَكًّى، ولمَنفعَتِه إن لم يَكُنْ مُذَكًّى [1192] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/108)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/2804). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- تَسمينُ الحَيَواناتِ للأعيادِ جائِزٌ عِندَ الجُمهورِ، بشَرطِ ألَّا يُؤَدِّيَ إلى ضَرَرِ الحَيَوانِ، فإن أضَرَّ بالحَيَوانِ فلا يَجوزُ؛ لأنَّ إضرارَ الحَيَوانِ حَرامٌ [1193] يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/247). .
2- مَن عَجَزَ عن نَفقةِ الحَيَواناتِ أُجبرَ على بَيعِها أو إجارَتِها أو ذَبحِها، فإنَّه لا يُمكِنُ أن نُبقيَ هذه البَهيمةَ عِندَه تَتَعَذَّبُ، بَل يُجبَرُ على أحَدِ هذه الأُمورِ، بشَرطِ أن يَبيعَها على شَخصٍ يَغلبُ على ظَنِّه أنَّه يَقومُ بالواجِبِ مِنَ النَّفقةِ، أمَّا إذا باعَها على شَخصٍ أفقَرَ مِنه، فإنَّ الأمرَ لا يَزولُ بهذا البَيعِ، أو باعَها على شَخصٍ مَعروفٍ بإيذاءِ البَهائِم وعَدَمِ الإنفاقِ عليها، فإنَّ هذا البَيعَ لا فائِدةَ مِنه [1194] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/530). .
3- لا يَجوزُ تَصريةُ الحَيَوانِ، وهيَ أن يَترُكَ البائِعُ حَلبَ الحَيَوانِ عَمدًا مُدَّةً قَبلَ بَيعِه حتَّى يَجتَمِعَ اللَّبَنُ، فيَتَخَيَّلَ المُشتَري غَزارةَ لبَنِه، فيَزيدَ في الثَّمَنِ، وهذا حَرامٌ؛ لِما فيه مِنَ التَّدليسِ وإيذاءِ الحَيَوانِ؛ لأنَّ حَبسَ اللَّبَنِ يَتَأذَّى به الحَيَوان [1195] يُنظر: ((المهمات)) للإسنوي (5/190)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/362)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/70)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (3/600). .
4- يَجِبُ فِعلُ ما يُصلحُ الحَيَواناتِ وما يَقيها الضَّرَرَ، فيَلزَمُه أن يَجعَلَها تَحتَ سَقفٍ يَقيها مِنَ الحَرِّ أوِ البَردِ إذا كانت تَتَأثَّرُ بالحَرِّ أوِ البَردِ، وإذا كان فيها جُرحٌ أو شَيءٌ يُؤلِمُها، ويُمكِنُه أن يُعالجَها فإنَّه يَلزَمُه، ومِن ثَمَّ احتاجَ النَّاسُ إلى البَياطِرةِ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أن يَدَعَها تَتَألَّمُ وهو يُمكِنُ أن يُزيلَ ألَمَها، فإنَّ حاجَتَها إلى إزالةِ ما يُؤلِمُها قد تَكونُ أشَدَّ مِن حاجَتِها إلى الأكلِ والشُّربِ [1196] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/528). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ التي يَجوزُ فيها إضرارُ الحَيَوانِ بسَبَبِ حاجةِ الإنسانِ، وقد قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّما أُبيحَ إضرارُ الحَيَوانِ للحاجةِ، والحُكمُ المُقَيَّدُ بالحاجةِ مُقدَّرٌ بقَدرِها) [1197] ((جامع المسائل)) (6/35). ، ومِن ذلك:
جَوازُ إجراءِ التَّجارِبِ على بَعضِ الحَيَواناتِ في عَقاقيرَ أو غَيرِها مِنَ الأدويةِ؛ لأنَّها خُلِقَت لنا، فإذا كان هذا مِن مَصلحَتِنا، ونَحنُ لم نَقصِدِ التَّعذيبَ، فإنَّه لا بَأسَ به؛ ولهذا فنَحنُ نُعَذِّبُها أكبَرَ تَعذيبٍ، وذلك بذَبحِها لنَأكُلَها، ومَصلحةُ الأُمَّةِ بمَعرِفةِ ما يَنتُجُ عن هذه العَقاقيرِ وما أشبَهَ ذلك أكثَرُ مِن مَصلحةِ الأكلِ، ولكِن يَجِبُ في هذه الحالِ أن يُستَعمَلَ أقرَبُ وسيلةٍ لإراحَتِها [1198] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/529). .

انظر أيضا: