المَطلبُ الحادي والعِشرونَ: الضَّرَرُ المُتَوقَّعُ كالمُتَحَقِّقِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الضَّرَرُ المُتَوقَّعُ كالمُتَحَقِّقِ"
[1199] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (1/178)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/156). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالضَّرَرُ المُتَوقَّعُ الحُصولِ كَثيرُ الوُقوعِ، ويَكونُ الضَّرَرُ مُتَوقَّعًا إذا لم يَقَعْ بَعدُ، ولكِنْ كافَّةُ الظُّروفِ المُحيطةِ تُشيرُ إلى أنَّه سَيَقَعُ حَتمًا، فإذا كان الضَّرَرُ سَيَقَعُ لا مَحالةَ، فإنَّ دَفعَه واجِبٌ وفقًا لقاعِدةِ (الضَّرَرُ يُزالُ)؛ فإنَّها تَقتَضي وُجوبَ إزالةِ الضَّرَرِ مُطلقًا.
ودَفعُ الضَّرَرِ المُتَوقَّعِ أوِ الواقِعِ لا يُنافي التَّوكُّلَ، بَل هو واجِبٌ، كالهَرَبِ مِنَ الجِدارِ الهاوي، وإساغةِ اللُّقمةِ بالماءِ، والتَّداوي
[1200] يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (3/99)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 364)، ((الأسرة ومرض الإيدز)) لجاسم سالم، منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/2034). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الغالبَ على الظَّنِّ أنَّ الضَّرَرَ المُتَوقَّعَ يَكونُ مُحَقَّقًا في الوُقوعِ، فوجَبَ العَمَلُ على دَفعِه؛ لأنَّ الضَّرَرَ يُزالُ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قال اللهُ تعالى:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَ اللهِ تعالى:
وَتَزَوَّدُوا أي: ما يَكُفُّ وُجوهَكُم عنِ النَّاسِ، وقد كان أهلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ ولا يَتَزَوَّدونَ، ويَقولونَ: نَحنُ المُتَوكِّلونَ، فإذا قَدِموا مَكَّةَ سَألوا النَّاسَ. فأنزَل اللهُ تعالى:
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [1201] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كان أهلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ ولا يَتَزَوَّدونَ، ويَقولونَ: نَحنُ المُتَوكِّلونَ، فإذا قَدِموا مَكَّةَ سَألوا النَّاسَ، فأنزَل اللهُ تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197] . أخرجه البخاري (1523). ، وليسَ فيه ذَمُّ التَّوكُّلِ؛ لأنَّ ما فعَلوه تَواكُلٌ لا تَوكُّلٌ؛ لأنَّ التَّوكُّلَ قَطعُ النَّظَرِ عنِ الأسبابِ مَعَ تَهيِئَتِها، لا تَركُ الأسبابِ بالكُلِّيَّةِ؛ فدَفعُ الضَّرَرِ المُتَوقَّعِ أوِ الواقِعِ لا يُنافي التَّوكُّلَ، بَل هو واجِبٌ
[1202] يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (3/99)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/416). .
- وقال اللهُ تعالى:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الخَوفَ: هو تَوقُّعُ الضُّرِّ المَشكوكِ في وُقوعِه، وهو خِلافُ الطُّمَأنينةِ، فإن ظَهَرَت مِنَ الرَّجُلِ أماراتُ النُّشوزِ؛ لِمَرَضٍ بها، أو كِبَرِ سِنٍّ وغَيرِ ذلك، ورَأت أن تُصالِحَه بتَركِ بَعضِ حُقوقِها جازَ؛ فأباحَ اللهُ تعالى الصُّلحَ مَعَ الخَوفِ وظُهورِ عَلاماتِ النُّشوزِ أوِ الإعراضِ
[1203] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/487)، ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (2/119). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه قال:
((بينما نحن في المسجِدِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبولُ في المسجدِ، فقال أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَهْ مَهْ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تُزْرِموه، دَعوه، فتركوه حتَّى بال، ثمَّ إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجِدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من هذا البَولِ ولا القَذَرِ، إنَّما هي لذِكرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ والصَّلاةِ وقراءةِ القُرآنِ، أو كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال فأمر رجلًا من القومِ فجاء بدَلوٍ من ماءٍ فشَنَّه عليه [1204] قال النَّوويُّ: (فشَنَّه عليه: يُروى بالشِّينِ المُعجَمةِ، وبالمُهمَلةِ، وهو في أكثَرِ الأُصولِ والرِّواياتِ بالمُعجَمةِ، ومَعناه: صَبَّه. وفرَّقَ بَعضُ العُلماءِ بَينَهما، فقال: هو بالمُهمَلةِ: الصَّبُّ في سُهولةٍ، وبالمُعجَمةِ: التَّفريقُ في صَبِّه. واللهُ أعلمُ). ((شرح مسلم)) (3/ 193). ) [1205] أخرجه البخاري (6025) مُختَصَرًا، ومسلم (285) واللَّفظُ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ مُراعاةُ حَقِّ الرَّجُلِ الذي بال لِما قد يَلحَقُه مِنَ الضَّرَرِ المُتَوقَّعِ مِن قَطعِ البَولِ عليه بَعدَ تَهَيُّئِه لخُروجِه ودَفعِه، وكذلك مُراعاةُ حَقِّ المَسجِدِ في صَونِه مِنَ النَّجاسةِ؛ خَوفًا مِنِ انتِشارِ البَولِ عِندَ قَطعِه عليه، وانتِقالِه مِن مَوضِعٍ إلى مَوضِعٍ، وذلك مُتَوقَّعٌ
[1206] يُنظر: ((النفح الشذي)) لابن سيد الناس (3/316). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تُواصِلوا. قالوا: إنَّك تواصِلُ! قال: إنِّي لستُ مِثلَكُم، إنِّي أَبِيتُ يُطعِمُني رَبِّي ويَسقيني، فلم يَنتَهوا عنِ الوِصالِ. قال: فواصَلَ بهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَينِ -أو: ليلتَينِ- ثُمَّ رَأوا الهلالَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو تَأخَّرَ الهلالُ لزِدتُكُم، كالمُنَكِّلِ لهم )) [1207] أخرجه البخاري (7299) واللَّفظُ له، ومسلم (1103). .
وَجهُ الدَّلالةِ:الحَديثُ دَليلٌ على أنَّ الوِصالَ في الصِّيامِ مَنهيٌّ عنه، والحِكمةُ مِنَ النَّهيِ عنه ما فيه مِنَ الضَّرَرِ الحاصِلِ أوِ المُتَوقَّعِ، وإنهاكِ البَدَنِ، وإحداثِ المَلَلِ، والتَّعَرُّضِ للتَّقصيرِ في بَعضِ وظائِفِ الدِّينِ؛ مِن إتمامِ الصَّلاةِ، والإكثارِ مِن تِلاوةِ القُرآنِ، أوِ الوظائِفِ الأُخرى، وهيَ الأعمالُ اليَوميَّةُ التي كُلِّف بها الإنسانُ
[1208] يُنظر: ((منحة العلام)) لعبدالله الفوزان (5/35). .
3- مِنَ القَواعِدِ: يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لا يُسَنُّ غَسلُ داخِلِ العَينَينِ في الوُضوءِ والغُسلِ؛ نَظَرًا إلى أنَّ الضَّرَرَ المُتَوقَّعَ كالمُتَحَقِّقِ
[1209] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (1/178)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/156). .
2- مَشروعيَّةُ الخيارِ؛ فإنَّه شُرِعَ لدَفعِ الغَبنِ؛ فالأصلُ أنَّ الخيارَ بأنواعِه المُختَلفةِ إنَّما شُرِعَ لدَفعِ الضَّرَرِ عنِ العاقِدِ، وهذا الضَّرَرُ يَكونُ مُتَوقَّعًا تارةً، ويَكونُ واقِعًا تارةً أُخرى؛ فشَرَع اللهُ تعالى خيارَ المَجلِسِ وخيارَ الشَّرطِ، فإنَّهما إنَّما ثَبَتا لدَفعِ ضَرَرٍ يَتَوقَّعُ العاقِدُ حُصولَه، فيَستَدرِكُه في مَجلِسِ العَقدِ، أو في مُدَّةِ الخيارِ، ويَتَخَلَّصُ مِنه، وذلك أنَّ العَقدَ قد يَقَعُ بَغتةً مِن غَيرِ تَرَوٍّ ولا نَظَرٍ في القيمةِ، فاقتَضَت مَحاسِنُ الشَّريعةِ أن يُجعَلَ للعَقدِ خيارٌ يَتَرَوَّى فيه العاقِدانِ، ويُعيدانِ النَّظَرَ، ويَستَدرِكُ كُلُّ واحِدٍ مِنهما ما فاتَه
[1210] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/146)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (6/17). .
3- إسقاطُ الحَملِ في مُدَّةِ الطَّورِ الأوَّلِ، وهيَ مُدَّةُ الأربَعينَ، لا تَجوزُ إلَّا لدَفعِ ضَرَرٍ مُتَوقَّعٍ أو تَحقيقِ مَصلحةٍ شَرعيَّةٍ، وتُقدَّرُ كُلُّ حالةٍ بعَينِها مِنَ المُختَصِّينَ طِبًّا وشَرعًا
[1211] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (21/435). .
4- لا يَجوزُ للمَرأةِ المُرضِعةِ المُصابةِ بمَرَضِ الإيدزِ إرضاعُ مَن كان سَليمًا، سَواءٌ أكان الرَّضاعُ لوَلَدِها، أو لغَيرِه؛ لأنَّ في إرضاعِها للطِّفلِ ضَرَرًا مُتَوقَّعًا، وهو ضَرَرُ إصابَتِه بالمَرَضِ، ودَفعُ هذا الضَّرَرِ واجِبٌ
[1212] يُنظر: ((النوازل في الرضاع)) لعبد الله الأحمد (ص: 498). .