كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُعلِّمًا ومُربِّيًا للنَّاسِ بالحِكمةِ والمَوْعِظةِ الحَسَنةِ، وخاصَّةً لمَن لا يَعلَمونَ أُمورَ الدِّينِ منَ الأعْرابِ وسُكَّانِ الصَّحْراءِ معَ ما فيهم مِن الطِّباعِ الغَليظةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان قاعِدًا في المَسجِدِ في المَدينةِ، فدخَل أعْرابيٌّ مِن البَدْوِ مِن سكَّانِ الصَّحْراءِ، والبَدوُ يَغلِبُ عليهم عَدمُ المَعرفةِ لبُعدِهم عنِ الحضَرِ، وعن أماكِنِ العِلمِ، فقعَد هذا الأعْرابيُّ يَبولُ في أرضِ المَسجِدِ؛ لظنِّه أنَّه يَجوزُ ذلك لجَهلِه، فثار عليه أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكادوا يَضرِبونَه وهم يَنهَوْنَه عن ذلك، ويَزْجُرونَه لِيَكُفَّ عنِ التَّبوُّلِ في المَسجِدِ، ولكنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحِكمتِه عَرَف أنَّ الأعْرابيَّ جاهلٌ لا يَعلَمُ، فأمَر أصْحابَه أنْ يَدَعوه يُكمِلُ بَوْلتَه، وقال: «لا تُزْرِموه»؛ أي: لا تَقْطَعوا عليه تَبوُّلَه، قيلَ: يُحتَمَلُ أنْ يكونَ خَشيَ إنْ قام على تلك الحالِ تَنجَّسَت مَواضِعُ كَثيرةٌ في المَسجِدِ، ويُحتَمَلُ أنْ يكونَ خَشيَ إنْ قطَع عليه أنْ يضُرَّ به احتقانُ البَّولِ.
ثمَّ لمَّا انْتَهى الأعْرابيُّ مِن التَّبوُّلِ، دَعاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليُعلِّمَه، فقال: «إنَّ هذه المَساجدَ لا تَصلُحُ لشَيءٍ مِن القذَرِ والخَلاءِ»، فبيَّنَ له أنَّ جميعَ المَساجِدِ «لا تَصلُحُ» في حُكمِ الشَّريعةِ «لشَيءٍ مِن هذا البَولِ والقذَرِ»، فلا يصِحُّ تَدْنيسُها بأيِّ نَوعٍ منَ القاذوراتِ مِثلِ البَولِ، والبُصاقِ، ثمَّ أبانَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي يَصلُحُ في المَساجِدِ، فبيَّنَ له أنَّ المَساجِدَ مُعظَّمةٌ ومُنزَّهةٌ،وإنَّما هي لقِراءةِ القُرآنِ أو ذِكرِ اللهِ، ويَدخُلُ في الذِّكرِ كلُّ طاعةٍ مِن قِراءة العِلمِ الشَّرعيِّ النَّافعِ، ثمَّ أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإناءٍ كَبيرٍ مَملوءٍ بالماءِ، فصَبُّوه على مَكانِ البَولِ ليُطهِّرَه.
وفي الحَديثِ: حُسنُ تَعليمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورِفْقُه.
وفيه: تَطْهيرُ البَولِ في المَسجدِ بصَبِّ الماءِ عليه.
وفيه: تَعليمُ الجاهِلينَ بالحِكمةِ والرَّحمةِ.