موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الخامِسَ عَشَرَ: الرُّخَصُ لا تُناطُ بالمَعاصي


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الرُّخَصُ لا تُناطُ بالمَعاصي" [855] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/135)، ((المنثور)) للزركشي (2/167)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/260). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
مَتى تَوقَّف فِعلُ الرُّخصةِ على وُجودِ شَيءٍ نُظِرَ في ذلك الشَّيءِ؛ فإن كان تَعاطيه في نَفسِه حَرامًا امتَنَعَ مَعَه فِعلُ الرُّخصةِ، وإلَّا فلا، وفَرقٌ بَينَ المَعصيةِ بالشَّيءِ والمَعصيةِ فيه، فيَجوزُ المَسحُ على الخُفِّ المَغصوبِ؛ لأنَّه مُحَرَّمٌ لغَيرِه بخِلافِ المُحَرَّمِ بذاتِه، كالحَريرِ؛ لأنَّ الرُّخصةَ فيه مَنوطةٌ باللُّبسِ، فلو جَعَله المُحرِمُ لِباسَ إحرامِه فإنَّه مَعصيةٌ لذاتِها، فلا مَجالَ للتَّرَخُّصِ بها، أمَّا الخُفُّ المَغصوبُ إذا لَبِسَه المُحرِمُ فليسَ مَعصيةً لذاتِه، أي: لكَونِه لُبسًا، بَل للاستيلاءِ على حَقِّ الغَيرِ؛ ولذا لو تَرَكَ اللُّبسَ لم تَزُلِ المَعصيةُ، بَل هيَ باقيةٌ، فكان مَجالًا للرُّخصةِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ استِثناءً مِن قاعِدةِ: (المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسيرَ) [856] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/135)، ((مطالع الدقائق)) للإسنوي (2/272)، ((البحر المحيط)) (2/36)، ((المنثور)) (2/167: 170) كلاهما للزركشي، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/260)، ((الكواكب الدراري)) لشمس الدين الكرماني (6/167)، ((غرائب القرآن)) للنيسابوري (1/657)، ((الكوثر الجاري)) للكوراني (3/172،171)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 138-140)، ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/162). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والمَعقولُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أباحَ للمُضطَرِّ الأكلَ مِنَ المَيتةِ بشَرطِ ألَّا يَكونَ باغيًا، بأن يَكونَ طالبًا بالأكلِ التَّقَوِّيَ على المَعصيةِ، وهذا على أحَدِ الأقوالِ في مَعنى الآيةِ [857] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/207)، ((تفسير الإمام الشافعي)) جمع الفرَّان (1/249). .
قال السَّمعانيُّ: (وهذا دَليلٌ على أنَّ العاصيَ في السَّفَرِ لا يَتَرَخَّصُ بهذه الرُّخصةِ) [858] ((تفسير السمعاني)) (3/207). .
2- مِنَ المَعقولِ:
أنَّ تَعليقَ الرُّخَصِ بالمَعاصي فيه إعانةٌ عليها ودِعايةٌ إليها، وهذا مُخالِفٌ لقَصدِ الشَّارِعِ [859] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (1/306)، ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 110). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- العاصي بسَفَرِه -كَمَن هَرَبَ مِن أداءِ حَقٍّ يَلزَمُه وهو قادِرٌ على أدائِه- فلا يَجوزُ له قَصرُ الصَّلاةِ ولا الفِطرُ في رَمَضانَ، على قَولِ الجُمهورِ؛ لأنَّ هذا ترَخُّصٌ، والرُّخَصُ لا تُناطُ بالمَعاصي [860] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/135)، ((المنثور)) للزركشي (2/167)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/261). .
2- مَن زال عَقلُه بسَبَبٍ مُحَرَّمٍ، كَشُربِ مُسكِرٍ، لم تَسقُطْ عنه الصَّلاةُ [861] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (1/190)، ((المنثور)) للزركشي (2/167)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/261). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
قال القَرافيُّ: (الفَرقُ بَينَ كَونِ المَعاصي أسبابًا للرُّخَصِ وبَينَ قاعِدةِ مُقارَنةِ المَعاصي لأسبابِ الرُّخَصِ، فإنَّ الأسبابَ مِن جُملةِ الوسائِلِ، وقدِ التَبَسَت هاهُنا على كَثيرٍ مِنَ الفُقَهاءِ، فأمَّا المَعاصي فلا تَكونُ أسبابًا للرُّخَصِ؛ ولِذلك العاصي بسَفَرِه لا يَقصُرُ ولا يُفطِرُ؛ لأنَّ سَبَبَ هذينِ السَّفَرُ، وهو في هذه الصُّورةِ مَعصيةٌ، فلا يُناسِبُ الرُّخصةَ؛ لأنَّ تَرتيبَ التَّرَخُّصِ على المَعصيةِ سَعيٌ في تَكثيرِ تلك المَعصيةِ بالتَّوسِعةِ على المُكَلَّفِ بسَبَبِها.
وأمَّا مُقارَنةُ المَعاصي لأسبابِ الرُّخَصِ فلا تَمتَنِعُ إجماعًا، كما يَجوزُ لأفسَقِ النَّاسِ وأعصاهُمُ التَّيَمُّمُ إذا عَدِمَ الماءَ، وهو رُخصةٌ، وكَذلك الفِطرُ إذا أضَرَّ بهِ الصَّومُ... فالمَعصيةُ هاهُنا مُقارِنةٌ للسَّبَبِ لا سَبَبٌ، وبهذا الفَرقِ يَبطُلُ قَولُ مَن قال: إنَّ العاصيَ بسَفَرِه لا يَأكُلُ المَيتةَ إذا اضطُرَّ إليها؛ لأنَّ سَبَبَ أكلِه خَوفُه على نَفسِه لا سَفَرُه، فالمَعصيةُ مُقارِنةٌ لسَبَبِ الرُّخصةِ لا أنَّها هيَ السَّبَبُ، ويَلزَمُ هذا القائِلَ أن لا يُبيحَ للعاصي جَميعَ ما تَقدَّمَ ذِكرُه، وهو خِلافُ الإجماعِ، فتَأمَّلْ هذا الفَرقَ؛ فهو جَليلٌ حَسَنٌ في الفِقهِ) [862] ((الفروق)) (2/33-34). .

انظر أيضا: