موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الرَّابعَ عَشَرَ: الرُّخَصُ تُبنى على الاحتياطِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الرُّخَصُ تُبنى على الاحتياطِ" [847] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/358). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
مِن رَحمةِ اللهِ بعِبادِه أن خَفَّف عنهم في التَّكاليفِ عِندَ قيامِ بَعضِ الأعذارِ بهم، فشَرَعَ لهم مِنَ الرُّخَصِ المُشتَمِلةِ على التَّخفيفِ والتَّيسيرِ ما يُناسِبُ أعذارَهم، إلَّا أنَّ الدُّخولَ في هذه الرُّخَصِ لا يَكونُ إلَّا بَعدَ تَحَرِّي الحَيطةِ، والتَّأكُّدِ مِن قيامِ العُذرِ والسَّبَبِ المُبيحِ للتَّرَخُّصِ دونَ تَساهُلٍ [848] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/358،357)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/508)، ((معلمة زايد)) (9/190). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ على هذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ -وأهوى النُّعمانُ بإصبَعَيه إلى أُذُنَيه-: ((إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشتَبِهاتٌ لا يَعلَمُهنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحَرامِ، كالرَّاعي يَرعى حَولَ الحِمى، يوشِكُ أن يَرتَعَ فيه، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمى اللَّهِ مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ)) [849] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أرشَدَ الحَديثُ إلى اتِّقاءِ الشُّبُهاتِ -وهيَ مَحَلُّ تَعارُضِ الأدِلَّةِ- حتَّى يَحتاطَ المَرءُ لدينِه؛ لأنَّ مَن تَرَكَ ما يَشتَبِهُ عليه مِنَ الإثمِ كان لِما استَبانَ له أترَكَ، ومَنِ اجتَرَأ على ما يَشُكُّ فيه مِنَ الإثمِ أوشَكَ أن يواقِعَ ما استَبانَ [850] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (5/284)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/128)، ((التوشيح شرح الجامع الصحيح)) للسيوطي (1/224). .
2- عن عَديِّ بنِ حاتِمٍ، قال: سَألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((إذا أرسَلتَ كَلبَك المُعَلَّمَ فقَتَل فكُلْ، وإذا أكَلَ فلا تَأكُلْ، فإنَّما أمسَكَه على نَفسِه. قُلتُ: أُرسِلُ كَلبي فأجِدُ مَعَه كَلبًا آخَرَ، قال: فلا تَأكُلْ؛ فإنَّما سَمَّيتَ على كَلبِك ولم تُسَمِّ على كَلبٍ آخَرَ)) [851] أخرجه البخاري (175) واللفظ له، ومسلم (1929). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ مَنَعَ مِنَ الأكلِ مِنَ الصَّيدِ إن وُجِدَ مَعَ الكَلبِ غَيرُه؛ لاحتِمالِ أنَّ المُؤَثِّرَ فيه كَلبٌ آخَرُ غَيرُ المُرسَلِ، فيَترُكُه تَرجيحًا لأجلِ ذلك [852] يُنظر: ((سبل السلام)) للصنعاني (2/517). ، فدَلَّ على أنَّ الرُّخَصَ يُحتاطُ فيها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- مَن تَوضَّأ ولَبِسَ الخُفَّينِ ثُمَّ شَكَّ في وقتِ الحَدَثِ: هَل كان في وقتِ الظُّهرِ أو في وقتِ العَصرِ؟ فإنَّه يَحسِبُه مِن وقتِ الظُّهرِ احتياطًا؛ لأنَّ وقتَ المَسحِ رُخصةٌ، والرُّخَصُ تُبنى على الاحتياطِ، وأحوَطُ حالتِه أن يَبنيَ على أوَّلِ زَمانَي شَكِّه [853] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/358،357). .
2- تَركُ الأكلِ مِن مَقتولِ كَلبِ الصَّيدِ، إذا شارَكَه كَلبٌ آخَرُ، وذلك للاحتياطِ؛ فالرُّخَصُ تُبنى على الاحتياطِ [854] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/ 255). .

انظر أيضا: