موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ التَّاسِعُ: ما جازَ لعُذرٍ بَطَل بزَوالِه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "ما جازَ لعُذرٍ بَطَل بزَوالِه" [814] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 85)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 74)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1279)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 19). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
إذا نَزَل بالمُكَلَّفِ عُذرٌ، أي: وَصفٌ طارِئٌ مُناسِبٌ للتَّسهيلِ عليه [815] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/47). ، فإنَّ الشَّريعةَ تُسَهِّلُ عليه بما يُناسِبُ العُذرَ، فإذا زال العُذرُ زال ما تَرَتَّبَ عليه مِن أحكامٍ؛ فالتَّسهيلاتُ التي أُبيحَت للمَشَقَّةِ والضِّيقِ وغَيرِهما تُرفعُ في حالةِ السَّعةِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ قَيدًا في قاعِدةِ المَشَقَّةِ [816] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (1/440)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 85)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 74)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1279)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 19). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 238-239] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ أمَرَهم إذا أمِنوا أن يُصَلُّوا الصَّلاةَ كَما افتَرَضَ اللَّهُ عليهم تامَّةً بَعدَ أن زال عُذرُ القَصرِ، وهو الخَوفُ الذي سَبَّبَ لهم رُخصةَ القَصرِ [817] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (5/248)، ((تفسير الثعلبي)) (2/200)، ((تفسير السمعاني)) (1/244)، ((تفسير القرطبي)) (3/225). .
- وقال اللهُ تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [ النساء: 103] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ أمَرَهم إذا استَقَرُّوا في أوطانِهم وأقاموا في أمصارِهم أن يُتِمُّوا الصَّلاةَ التي أذِنَ لهم بقَصرِها في حالِ خَوفِهم في سَفرِهم وضَربِهم في الأرضِ؛ لزَوالِ العُذرِ [818] يُنظر: ((تفسير الإمام الشافعي)) جمع الفرَّان (2/666)، ((تفسير الطبري)) (9/165)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (7/63). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الصَّعيدَ الطَّيِّبَ طَهورُ المُسلِمِ وإن لم يَجِدِ الماءَ عَشرَ سِنينَ، فإذا وجَدَ الماءَ فليُمِسَّه بَشَرَتَه؛ فإنَّ ذلك خَيرٌ )) [819] أخرجه أبو داود (332)، والترمذي (124) واللفظ له، والنسائي (322). صحَّحه أبو حاتم الرازي كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (1/240)، والترمذي، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (1311)، والدارقطني كما في ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (1/373)، والنووي في ((المجموع)) (1/94)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (124). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ أنَّ فاقِدَ الماءِ يَتَيَمَّمُ مَهما طالت مُدَّةُ فَقدِ الماءِ، فإذا وجَدَه لزِمَه الوُضوءُ به؛ لزَوالِ عُذرِه، فثَبَتَ أنَّ ما جازَ لعُذرٍ زال بزَوالِه [820] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/452)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (3/849). .
- وعن قَبيصةَ بنِ مُخارِقٍ الهِلاليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: تَحَمَّلْتُ حَمالةً، فأَتَيْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسأَلُه فيها، فقال: ((أقِمْ حتَّى تَأتيَنا الصَّدَقةُ فنَأمُرَ لك بِها، قال: ثُمَّ قال: يا قَبِيصةَ، إنَّ المَسألةَ لا تَحِلُّ إلَّا لأحَدِ ثَلاثةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمالةً، فحَلَّتْ له المَسألةُ حتَّى يُصيبَها، ثُمَّ يُمسِكُ، ورَجُلٌ أصابَتْه جائِحةٌ اجْتاحَتْ مالَه فحَلَّتْ له المَسألةُ حتَّى يُصيبَ قِوامًا مِن عَيشٍ -أو قال: سِدادًا مِن عَيشٍ- ورَجُلٌ أصابته فاقةٌ حتَّى يَقومَ ثَلاثةٌ مِن ذَوي الحِجَى مِن قَومِه: لقد أصابَتْ فُلانًا فاقةٌ، فحَلَّتْ له المَسألةُ حتَّى يُصيبَ قِوامًا مِن عَيشٍ-أو قال: سِدادًا مِن عَيشٍ- فما سِواهُنَّ يا قَبِيصةُ مِن المَسألةِ سُحْتًا )) [821] أخرجه مسلم (1044). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ أنَّ المَسألةَ تَحِلُّ لمَن تَحمَّل حَمالةً -أي: المالَ الذي يَستَدينُه الإنسانُ لإصلاحِ ذاتِ البَينِ- حتَّى يَقضيَها، فإذا قَضاها لا تَحِلُّ له، ولرَجُلٍ نَزَلت به جائِحةٌ أكَلَت مالَه أو فاقةٌ حتَّى يُصيبَ قِوامًا مِنَ العَيشِ، فإذا أصابَه لا تَحِلُّ له، فبَيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ هذه أعذارٌ تُبيحُ له المَسألةَ، وأنَّها إذا ارتَفعَت لا يَجوزُ له أن يَسألَ النَّاسَ؛ فحَدُّ الإباحةِ إلى زَوالِ الموجِبِ لها، ثُمَّ عَودِه إلى الأصلِ السَّابقِ المَمنوعِ، وهو مَعنى قاعِدةِ أنَّ ما ثَبَتَ لعُذرٍ زال بزَوالِه [822] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (3/578،577)، ((المفهم)) للقرطبي (3/88،87). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الشَّهادةُ على الشَّهادةِ لمَرَضٍ ونَحوِه تَبطُلُ إذا حَضَرَ الأصلُ عِندَ الحاكِمِ قَبلَ الحُكمِ، فلو حَضَرَ الأصلُ قَبلَ الحُكمِ تَعَيَّنَت شَهادَتُه؛ لأنَّ القُدرةَ عليه تَمنَعُ الفَرعَ [823] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/277)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 85)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 74)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/212). .
2- التَّيَمُّمُ يَبطُلُ بوُجودِ الماءِ قَبلَ الدُّخولِ في الصَّلاةِ [824] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 85). .

انظر أيضا: