موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ العاشِرُ: زَوالُ العُذرِ بَعدَ التَّرَخُّصِ لا يُؤَثِّرُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "زَوالُ العُذرِ بَعدَ التَّرَخُّصِ لا يُؤَثِّرُ" [825] يُنظر: ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (3/222)، ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (2/540). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
مَن تَرَخَّص برُخصةٍ لعُذرٍ مِنَ الأعذارِ ثُمَّ زال العُذرُ بَعدَ التَّرَخُّصِ، فإنَّ زَوالَ العُذرِ لا يُؤَثِّرُ في استِمرارِ العَمَلِ بالرُّخصةِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ استِثناءً مِمَّا قَبلَها [826] يُنظر: ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (3/222)، ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (2/540)، ((النجم الوهاج)) للدميري (3/333)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/171). .
وحَولَ الفرقِ بَينَ هذه القاعِدةِ (زَوالُ العُذرِ بَعدَ التَّرَخُّصِ لا يُؤَثِّرُ) والقاعِدةِ السَّابقةِ (ما جازَ لعُذرٍ بَطَل بزَوالِهـ):
قاعِدةُ (ما جازَ لعُذرٍ بَطَل بزَوالِهـ) عامَّة ومُطَّرِدة، فالتَّيَمُّمُ رُخِّصَ فيه لعُذرِ عَدَمِ الماءِ أو عَدَمِ القُدرةِ على استِعمالِه، فإذا وُجِدَ وقُدِرَ على استِعمالِه -أي: زال العُذرُ- فإنَّه يَبطُلُ التَّيَمُّمُ حينَئِذٍ.
وأمَّا قاعِدةُ (زَوالُ العُذرِ بَعدَ التَّرَخُّصِ لا يُؤَثِّرُ) فهيَ مُستَثناةٌ مِنَ القاعِدةِ السَّابقةِ، أو يُقالُ: هيَ عامَّةٌ مَخصوصةٌ ببَقاءِ وقتِ العِبادةِ؛ فالمُرادُ بها أنَّ زَوالَ العُذرِ المُبيحِ للرُّخصةِ لا يُؤَثِّرُ في استِمرارِ العَمَلِ بها حالَ بَقاءِ وَقتِ العِبادةِ، فالمُتَيَمِّمُ في المِثالِ السَّابقِ إذا صَلَّى قَبلَ وُجودِ الماءِ وبَقيَ وقتٌ لإعادةِ الصَّلاةِ بوُضوءٍ بالماءِ، فإنَّه لا يُطالَبُ بذلك؛ لأنَّ القاعِدةَ تَحكُمُ بأنَّ زَوالَ العُذرِ بَعدَ التَّرَخُّصِ لا يُؤَثِّرُ، أي: لا تُؤَثِّرُ مَعَ بَقاءِ وقتِ العِبادةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
مِمَّا يُستَدَلُّ به على هذه القاعِدةِ الأثَرُ:
فعن نافِعٍ (عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه أقبَل مِنَ الجُرُفِ [827] الجُرُف: بضَمِّ الجيمِ والرَّاءِ: مَوضِعٌ بَينَه وبَينَ المَدينةِ ثَلاثةُ أميالٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/ 228). حتَّى إذا كان بالمِربَدِ [828] قال القَسطَلَّانيُّ في بَيانِ مَعنى "مِربَد": (بفتحِ الميمِ كَما في الفرعِ. ورَواه السَّفاقِسيُّ والجُمهورُ على كَسرِها، وهو الموافِقُ للُّغةِ، وبسُكونِ الرَّاءِ وفَتحِ الموحَّدةِ، آخِرُه مُهمَلةٌ: مَوضِعٌ تُحبَسُ فيه الإبِلُ والغَنَمُ، وهو هنا على ميلَينِ مِنَ المَدينةِ). ((إرشاد الساري)) (1/ 369). تَيَمَّم، فمَسَحَ وجهَه ويَدَيه وصَلَّى العَصرَ، ثُمَّ دَخَل المَدينةَ والشَّمسُ مُرتَفِعةٌ فلم يُعِدِ الصَّلاةَ) [829] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبل حَديث (337)، وأخرجه مَوصولًا الطَّحاويُّ في ((شرح معاني الآثار)) (681)، والبيهقي (1077) واللفظ له. صحَّحه ابنُ الملقنِ في ((البدر المنير)) (2/666)، وصَحَّحَ إسنادَه النوويُّ في ((خلاصة الأحكام)) (1/220)، وذَكَر ثُبوتَه ابنُ المُنذِر في ((الأوسط)) (2/152)، والبيهقي في ((الخلافيات)) (828)، وقال الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (2/406): مَحفوظٌ، وقال ابنُ عساكر في ((تاريخ دمشق)) (15/378): المَحفوظُ أنَّه مَوقوفٌ مِن فِعلِ ابنِ عُمَرَ، وهو الصَّحيحُ، وقال مُحَمَّدُ ابنُ عبد الهادي في ((تعليقة على العلل)) (8): هذا هو الصَّحيحُ عن ابنِ عُمَرَ نَفسِه، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((التلخيص الحبير)) (1/225): مَوقوف، وقال الدارقطني: الصَّوابُ مَوقوف. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ وُجودَ الماءِ بَعدَ فقدِه لم يُؤَثِّرْ؛ فلذا لم يُعِدِ ابنُ عُمَرَ صَلاتَه، فدَلَّ على أنَّ زَوالَ العُذرِ بَعدَ الأخذِ بالرُّخصةِ لا يُؤَثِّرُ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو قَصَرَ المُسافِرُ ثُمَّ أقامَ والوقتُ باقٍ لم يَخرُجْ فإنَّه لا تَلزَمُه إعادةُ الصَّلاةِ؛ لأنَّ زَوالَ العُذرِ بَعدَ التَّرَخُّصِ لا يُؤَثِّرُ [830] يُنظر: ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (3/222)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/424)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (3/433). .
2- لو أفطَرَتِ الحائِضُ ثُمَّ طَهُرَت أثناءَ النَّهارِ وزال عُذرُها فإنَّه لا يَجِبُ عليها الإمساكُ بَقيَّةَ اليَومِ؛ لأنَّ الفِطرَ مُباحٌ لها [831] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/256)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/413)، ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (4/70). وعندَ أبي حنيفةَ: يَلزَمُها الإمساكُ بقيَّةَ اليومِ. يُنظر: ((البناية)) للعيني (4/91)، ((اللباب)) للميداني (1/172). .

انظر أيضا: