موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الخامِسُ: إذا وقَعَتِ النِّيَّةُ في مَحَلِّها وجَبَ استِصحابُ حُكمِها لا ذِكرِها؛ لعُسرِه إلى تَمامِ مُتَعَلِّقِها


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "إذا وقَعَتِ النِّيَّةُ في مَحَلِّها وجَبَ استِصحابُ حُكمِها لا ذِكْرِها؛ لعُسرِه إلى تَمامِ مُتَعَلِّقِها" [66] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (1/285) و(2/547). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
الأعمالُ الصَّادِرةُ عنِ العَبدِ لا يُثابُ عليها إلَّا بالنِّيَّةِ، وبَعضُها لا يَصِحُّ إلَّا بالنِّيَّةِ، وإذا نَوى العَبدُ فالأصلُ استِصحابُ ذِكرِ النِّيَّةِ، لكِنَّ استِصحابَ ذِكرِ النِّيَّةِ فيه مَشَقَّةٌ وحَرَجٌ شَديدٌ، ولمَّا كانتِ الشَّريعةُ مَبنيَّةً على اليُسرِ ورَفعِ الحَرَجِ خُفِّف عنِ النَّاسِ في ذلك، واكتُفيَ بالنِّيَّةِ المُقارِنةِ لأوَّلِ العَمَلِ مَعَ استِصحابِ حُكمِها إلى نِهايةِ العَمَلِ، ومَعنى استِصحابِ حُكمِها: أن لا يَنويَ قَطعَها، فإن عَزَبَت عن خاطِرِه، وذَهِل عنها، لم يُؤَثِّرْ ذلك في قَطعِها؛ فلا تَبطُلُ بعُزوبِها، فالواجِبُ هو استِصحابُ حُكمِها لا دَوامُ ذِكرِها [67] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (4/47)، ((البيان)) للعمراني (2/161)، ((المغني)) لابن قدامة (1/84)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/214،213)، ((الشرح الكبير على متن المقنع)) لشمس الدين ابن قدامة (1/123)، ((المنثور)) للزركشي (3/297)، ((القواعد)) للمقري (1/285) و(2/547)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) لبورنو (1/433). .
ووَجهُ تَفَرُّعِها عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (الأُمورُ بمَقاصِدِها): أنَّ قاعِدةَ: الأُمورُ بمَقاصِدِها، قد يُفهَمُ مِنها أنَّ الواجِبَ استِصحابُ ذِكرِ النِّيَّةِ والمَقصَدِ في أوَّلِ العَمَلِ وأثنائِه، فأفادَتِ القاعِدةُ الفرعيَّةُ أنَّ النِّيَّةَ بوُقوعِها في مَحَلِّها المُناسِبِ في أوَّلِ العَمَلِ، مَعَ استِصحابِ حُكمِها، بأن لا يَنوي قَطعَها: كافٍ في اعتِبارِ النِّيَّةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ على هذه القاعِدةِ بـ: الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على رَفعِ الحَرَجِ والمَشَقَّةِ عن هذه الأُمَّةِ؛ إذ لمَّا كان استِصحابُ ذِكرِ النِّيَّة عَسيرًا اكتُفيَ باستِصحابِ حُكمِها دَفعًا للحَرَجِ، والأدِلَّةُ على رَفعِ الحَرَجِ كَثيرةٌ، ومِنها:
1- عُمومُ قَولِ اللهِ سُبحانَه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.. [البقرة: 286] .
2- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.. [الحج: 78] .
فالتَّكليفُ إنَّما يَكونُ بما في حُدودِ الوُسعِ، وأمَّا الحَرَجُ فمَرفوعٌ عن هذه الأُمَّةِ.
ويُستَدَلُّ عليها أيضًا مِنَ السُّنَّةِ بما يَلي:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا نوديَ للصَّلاةِ أدبَر الشَّيطانُ وله ضُراطٌ، حتَّى لا يَسمَعَ التَّأذينَ، فإذا قَضى النِّداءَ أقبَلَ، حتَّى إذا ثُوِّبَ بالصَّلاةِ أدبَرَ، حتَّى إذا قَضى التَّثويبَ أقبَلَ، حتَّى يَخطِرَ بَينَ المَرءِ ونَفسِه، يَقولُ: اذكُرْ كَذا، اذكُرْ كَذا، لِما لم يَكُنْ يَذكُرُ، حتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدري كَم صَلَّى )) [68] أخرجه البخاري (608) واللفظ له، ومسلم (389). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ الشَّيطانَ يَحولُ بَينَ العَبدِ وبَينَ ما يُريدُه مِن إقبالِه على صَلاتِه وإخلاصِه فيها، وهو حينَئِذٍ لا يَكونُ مُستَحضِرًا للنِّيَّةِ، وإن كان مُستَصحِبًا لحُكمِها مِن أوَّلِ العَمَلِ ولم يَقضِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببُطلانِ صَلاتِه [69] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/389)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/86)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/559،558). .
2- عن عُقبةَ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: صَلَّيتُ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَصرَ، فلمَّا سَلَّمَ قامَ سَريعًا دَخَل على بَعضِ نِسائِه، ثُمَّ خَرَجَ ورَأى ما في وُجوهِ القَومِ مِن تَعَجُّبِهم لسُرعَتِه، فقال: ((ذَكَرتُ وأنا في الصَّلاةِ تِبرًا عِندَنا، فكَرِهتُ أن يُمسيَ -أو يَبيتَ- عِندَنا، فأمَرتُ بقِسمَتِه )) [70] أخرجه البخاري (1221). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا التَّفكُّرَ في الصَّلاةِ يَجعَلُ المَرءَ غَيرَ مُستَحضِرٍ لنيَّةِ الصَّلاةِ، وإن كان مُستَصحِبًا لحُكمِها [71] قال ابنُ حَجَرٍ: (قال المُهلَّبُ: التَّفكُّرُ أمرٌ غالبٌ لا يُمكِنُ الاحتِرازُ مِنه في الصَّلاةِ ولا في غَيرِها؛ لِما جَعَل اللَّهُ للشَّيطانِ مِنَ السَّبيلِ على الإنسانِ، ولكِن يَفتَرِقُ الحالُ في ذلك، فإن كان في أمرِ الآخِرةِ والدِّينِ كان أخَفَّ مِمَّا يَكونُ في أمرِ الدُّنيا. قَولُه: وقال عُمَرُ: إنِّي لأُجَهِّزُ جَيشي وأنا في الصَّلاةِ. وصَلَه ابنُ أبي شَيبةَ بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي عُثمانَ النَّهديِّ عنه بهذا سَواءً، قال ابنُ التِّينِ: إنَّما هذا فيما يَقِلُّ فيه التَّفكُّرُ، كَأن يَقولَ: أُجَهِّزُ فلانًا، أُقَدِّمُ فُلانًا، أُخرِجُ مِنَ العَدَدِ كَذا وكَذا، فيَأتي على ما يُريدُ في أقَلِّ شَيءٍ مِنَ الفِكرةِ). ((فتح الباري)) (3/190). ويُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/559،558). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- استِصحابُ ذِكرِ النِّيَّةِ في الوُضوءِ، فإنِ استَصحَبَ حُكمَها أجزأه، ومَعنى استِصحابِ حُكمِها أن لا يَنويَ قَطعَها، فإن عَزَبَت عن خاطِرِه لم يُؤَثِّرْ في قَطعِها [72] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/84)، ((الشرح الكبير على متن المقنع)) لشمس الدين ابن قدامة (1/123)، ((التعليقة)) للقاضي حسين (2/ 702- 703). .
2- استِصحابُ حُكمِ النِّيَّةِ في الصَّومِ، بأن لم يَنوِ قَطعَها، أجزَأته، فإن وَقَع النِّسيانُ لنيَّةِ الصَّومِ في أثناءِ الصَّومِ بأن أكَل أو شَرِبَ ناسيًا مَثَلًا، فإنَّ صَومَه صحيحٌ ما لم يَنوِ قَطعَها بشَيءٍ آخَرَ [73] يُنظر: ((التعليق الكبير)) لأبي يعلى (3/ 145)، ((المغني)) لابن قدامة (2/ 134)، ((قواعد الأحكام)) للعز ابن عبد السلام (1/ 214)، ((مواهب الجليل)) للرعيني (1/ 233). .
3- استِصحابُ حُكمِ النِّيَّةِ في الطَّهارةِ بأن لا يَنويَ قَطعَها في أوَّلِها حتَّى يُتِمَّها، فهو واجِبٌ عليه، ولو حَصَل ذُهولٌ في أثنائِها [74] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/ 159)، ((الأسئلة والأجوبة الفقهية)) لعبدالعزيز السلمان (1/ 23)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/ 561). .

انظر أيضا: