المَطلبُ الثَّاني: المُباحُ يَنصَرِفُ بالنِّيَّةِ إلى الطَّاعةِ، والعادةُ تَنقَلِبُ عِبادةً بالنِّيَّةِ الصَّالحةِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِمِنَ الصِّيَغِ المُتَداوَلةِ للقاعِدةِ "المُباحاتُ تَصيرُ طاعاتٍ بالنِّيَّاتِ الصَّادِقاتِ"
[32] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/92). ، و"المُباحُ إذا قُصِدَ به وجهُ اللهِ صارَ طاعةً"
[33] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/368). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالأصلُ في المُباحاتِ أنْ لا ثَوابَ عليها ولا عِقابَ، وذلك كالأكلِ والشُّربِ ومُلاطَفةِ الزَّوجةِ ونَحوِ ذلك مِمَّا ليسَ بعِبادةٍ، لكِنْ قد تَصحَبُ هذه العاداتِ نيَّةٌ طَيِّبةٌ إذا نَوى بها صاحِبُها القُربةَ للهِ تعالى، كالأكلِ، والشُّربِ، كَأن يَنويَ بهما القوَّةَ على الطَّاعةِ، وكالنَّومِ إذا قَصَدَ به تَرويحَ البَدَنِ للعِبادةِ، والوطءِ إذا أرادَ به التَّعَفُّفَ عنِ الفاحِشةِ، فيُثابُ المَرءُ حينَئِذٍ على فِعلِ المُباحِ ليسَ لكَونِه مُباحًا، بَل لأجلِ أنَّه نوى به القُربةَ
[34] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (2/10)، ((الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)) لابن الملقن (1/160) و (8/43). .
قال الغَزاليُّ: (وما مِن شَيءٍ مِنَ المُباحاتِ إلَّا ويَحتَمِلُ نيَّةً أو نيَّاتٍ يَصيرُ بها مِن مَحاسِنِ القُرُباتِ، وينالُ بها مَعالي الدَّرَجاتِ، فما أعظَمَ خُسرانَ مَن يَغفُلُ عنها ويَتَعاطاها تَعاطيَ البَهائِمِ المُهملةِ عن سَهوٍ وغَفلةٍ)
[35] ((إحياء علوم الدين)) (4/371). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (إذا عُرِف أنَّ لذَّاتِ الدُّنيا ونَعيمَها إنَّما هيَ مَتاعٌ ووسيلةٌ إلى لذَّاتِ الآخِرةِ، وكذلك خُلِقَت، فكُلُّ لذَّةٍ أعانَت على لذَّاتِ الآخِرةِ فهو مِمَّا أمَرَ اللهُ به ورَسولُه، ويُثابُ على تَحصيلِ اللَّذَّةِ بما يَئوبُ إليه مِنها مِن لذَّاتِ الآخِرةِ التي أعانَت هذه عليها؛ ولهذا كان المُؤمِنُ يُثابُ على ما يَقصِدُ به وَجهَ اللهِ؛ مِن أكلِه وشُربِه ولباسِه ونِكاحِه، وشِفاءِ غَيظِه بقَهرِ عَدُوِّه في الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، ولذَّةِ عِلمِه وإيمانِه وعِبادَتِه وغَيرِ ذلك، ولذَّاتِ جَسَدِه ونَفسِه وروحِه مِنَ اللَّذَّاتِ الحِسِّيَّةِ والوهميَّةِ والعَقليَّةِ)
[36] ((الاستقامة)) (2/152). .
وهذه القاعِدةُ أخَصُّ مِن قاعِدة (الأُمورُ بمَقاصِدِها) فهيَ خاصَّةٌ بالمُباحِ، وهو ما لا يَتَعَلَّقُ به أمرٌ أو نَهيٌ، فالمُباحُ إذا قُصِدَ فيه نيَّةٌ صالحةٌ انقَلبَ إلى عِبادةٍ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستدَلَّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
لَا خَيۡرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمًا [النساء: 114] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذه المَذكوراتِ في الآيةِ أعمالٌ في غايةِ الشَّرَفِ والجَلالةِ، والخَيرُ وَصفٌ ثابتٌ لها؛ لِما فيها مِنَ المَنافِعِ، ولأنَّها مَأمورٌ بها في الشَّرعِ، إلَّا أنَّ الثَّوابَ لا يَحصُلُ إلَّا عن فِعلِها ابتِغاءَ مَرضاةِ اللهِ، ولا يَنتَفِعُ بها المَرءُ إلَّا إذا أتى بها لوَجهِ اللهِ تعالى
[37] ((التفسير المحرر - سورة النساء)) إعداد الدرر السنية (3/566). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- حَديثُ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّك لن تُنفِقَ نَفقةً تَبتَغي بها وجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ عليها حتَّى ما تَجعَلَ في في امرَأتِك )) [38] أخرجه البخاري (56) واللفظ له، ومسلم (1628). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ أشارَ إلى أمرٍ مُباحٍ يُفعَلُ عِندَ المُلاطَفةِ ونَحوِها، وهو وَضعُ اللُّقمةِ في فَمِ الزَّوجةِ، ومَعَ ذلك إذا ابتَغى به المَرءُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أُثيبَ عليه؛ فدَلَّ على أنَّ المُباحَ قد يَنقَلبُ طاعةً لو نَوى المَرءُ به خَيرًا
[39] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/163)، ((العدة في شرح العمدة)) لابن العطار (3/1229). .
- وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((وفي بُضعِ أحَدِكُم صَدَقةٌ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أيَأتي أحَدُنا شَهوتَه ويَكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: أرَأيتُم لو وضَعَها في حَرامٍ، أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضَعَها في الحَلالِ كان له أجرٌ )) [40] لفظه: عن أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا رَسولَ اللهِ، ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ بالأُجورِ، يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصومونَ كما نَصومُ، ويَتَصَدَّقونَ بفُضولِ أموالِهم! قال: أوَليس قد جَعَلَ اللَّهُ لكم ما تَصَّدَّقونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسبيحةٍ صَدَقةً، وكُلِّ تَكبيرةٍ صَدَقةً، وكُلِّ تحميدةٍ صَدَقةً، وكُلِّ تهليلةٍ صَدَقةً، وأمرٌ بالمَعروفِ صَدَقةٌ، ونَهيٌ عن مُنكَرٍ صَدَقةٌ، وفي بُضعِ أحَدِكم صَدَقةٌ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أيَأتي أحَدُنا شَهوَتَه ويَكونُ له فيها أجرٌ؟! قال: أرَأيتُم لو وضَعَها في حَرامٍ أكانَ عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضَعَها في الحَلالِ، كان له أجرٌ)). أخرجه مسلم (1006). .
وَجهُ الدَّلالةِ:بَيَّنَ الحَديثُ أنَّ الجِماعَ -وهو فِعلٌ مُباحٌ- صارَ بالنِّيَّةِ الصَّادِقةِ طاعةً حينَما فعَله ليَحميَ نَفسَه مِنَ الوُقوعِ في الحَرامِ، ولغَيرِ ذلك مِنَ المَقاصِدِ الحَسَنةِ
[41] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (3/527)، ((المفهم)) للقرطبي (3/52). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِمِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- السَّفرُ، فليسَ عِبادةً في أصلِه، فلا ثَوابَ فيه ولا عِقابَ، فإن نَوى المَرءُ بسَفرِه طاعةً، كَأن نَوى النُّسُكَ، صارَ عِبادةً يُثابُ عليها
[42] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (2/524). .
2- لُبسُ السَّاعةِ؛ فإنَّه عادةٌ مُباحةٌ لم تَكُنْ مَوجودةً سابقًا، فمَن نَوى بارتِدائِها الجَمالَ أو نَحوَه فهو مُباحٌ، ومَن نَوى بها ضَبطَ مَواعيدِ الصَّلاةِ وأن تُساعِدَه في الوفاءِ بالمَواعيدِ التي أبرَمَها، ونَحوَ ذلك مِنَ النِّيَّاتِ الطَّيِّبةِ، فإنَّها تَكونُ بهذه النِّيَّةِ قُربةً وطاعةً
[43] يُنظر: ((رسالة في تحقيق قواعد النية)) لوليد السعيدان (ص: 40). .