موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّالثُ: ما تَمَيَّزَ بنَفسِه لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "ما تَمَيَّزَ بنَفسِه لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ" [44] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/59). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بــ"ما لا يَكونُ إلَّا عِبادةً لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ" [45] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 25). ، و"عَدَم اشتِراطِ النِّيَّةِ في عِبادةٍ لا تَكونُ عادةً" [46] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 12). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
جُعِلتِ النِّيَّةُ للتَّمييزِ بَينَ رُتَبِ العِباداتِ، فلا يُمكِنُ التَّمييزُ بَينَ رَكعَتي فريضةِ الفَجرِ ورَكعَتي سُنَّةِ الفجرِ إلَّا بالنِّيَّةِ، ولا بَينَ الصَّومِ الواجِبِ -كالنَّذرِ والقَضاءِ- وصَومِ النَّفلِ إلَّا بالنِّيَّةِ أيضًا، ولا تَتَمَيَّزُ العِباداتُ عنِ العاداتِ إلَّا بالنِّيَّةِ؛ فالإمساكُ عنِ الطَّعامِ قد يَكونُ مِن أجلِ التَّداوي، وقد يَكونُ بنيَّةِ الصَّومِ، والمُمَيِّزُ في هذه الحالةِ هو النِّيَّةُ، فإذا كانتِ العِبادةُ لا تَلتَبسُ بغَيرِها مِن عِبادةٍ أو مُعامَلةٍ فإنَّها لا تَفتَقِرُ إلى النِّيَّةِ، كالتَّسبيحِ والتَّهليلِ والتَّكبيرِ، والثَّناءِ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ بما لا يُشارَكُ فيه [47] عَلَّقَ ابنُ حَجرٍ على عَدَمِ افتِقارِ الأذكارِ والأدعيةِ والتِّلاوةِ إلى النِّيَّةِ، فقال: (لا يَخفى أنَّ ذلك إنَّما هو بالنَّظَرِ إلى أصلِ الوضعِ، أمَّا ما حَدَثَ فيه عُرفٌ كالتَّسبيحِ للتَّعَجُّبِ فلا). ((فتح الباري)) (1/14). ، والأذانِ، وقِراءةِ القُرآنِ؛ فإنَّه لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ؛ إذ لا تَرَدُّدَ له بَينَ العِبادةِ والعادةِ، ولا بَينَ رُتَبِ العِبادةِ، والنِّيَّاتُ إنَّما شُرِعَت لتَمييزِ العِباداتِ عنِ العاداتِ، أو لتَمييزِ رُتَبِ العِباداتِ [48] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/210)، ((شرح الإلمام بأحاديث الأحكام)) لابن دقيق العيد (4/538)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/59)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/14)، ((المنثور)) (3/288)، ((تشنيف المسامع)) (3/474) كلاهما للزركشي، ((القواعد)) لتقي الدين الحصني (1/214)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (1/53)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 25)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 12)، ((كوثر المعاني الدراري)) لمحمد الخضر الشنقيطي (1/141). .
وهذه القاعِدةُ أخَصُّ مِن قاعِدةِ (الأُمورُ بمَقاصِدِها)، فهيَ تَختَصُّ بالعِباداتِ المُتَمَيِّزةِ عنِ العاداتِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ الإجماعُ والمَعقولُ:
1- مِنَ الإجماعِ:
أجمَع العُلَماءُ على أنَّ ما لا يَكونُ إلَّا عِبادةً لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ، ومِمَّن نَقَله بَدرُ الدِّينِ العَينيُّ [49] قال: (وكذلك أداءُ الدَّينِ ورَدُّ الودائِعِ والأذانُ والتِّلاوةُ والأذكارُ والهدايةُ إلى الطَّريقِ وإماطةُ الأذى: عِباداتٌ، كُلُّها تَصِحُّ بلا نيَّةٍ إجماعًا). ((عمدة القاري)) (1/314). .
2- مِنَ المَعقولِ:
أنَّ النِّيَّاتِ إنَّما شُرِعَت لتَمييزِ العِباداتِ عنِ العاداتِ، أو لتَمييزِ رُتَبِ العِباداتِ، فما هو مُتَمَيِّزٌ بنَفسِه لا يَحتاجُ إلى تَمييزٍ، فما هو قُربةٌ في نَفسِه فهو مُتَمَيِّزٌ بصورَتِه، فلا يَفتَقِرُ إلى قَصدٍ يُمَيِّزُه [50] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/210)، ((شرح الإلمام بأحاديث الأحكام)) لابن دقيق العيد (4/538)، ((المنثور)) للزركشي (3/288)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 12). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- قِراءةُ القُرآنِ: لا تَفتَقِرُ إلى نيَّةٍ؛ لكَونِها عِبادةً مُتَمَيِّزةً بنَفسِها لا تَلتَبسُ بغَيرِها مِنَ العِباداتِ أوِ العاداتِ حتَّى تَحتاجَ إلى قَصدٍ يُمَيِّزُها [51] يُنظر: ((عمدة القاري)) لبدر الدين العيني (1/314)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 12)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 25). .
2- العِباداتُ القَلبيَّةُ: كالإيمانِ والتَّعظيمِ والإجلالِ والخَوفِ والرَّجاءِ والتَّوكُّلِ؛ فإنَّ هذه العِباداتِ القَلبيَّةَ مُتَمَيِّزةٌ عنِ العاداتِ، ولا يُتَصَوَّرُ وُقوعُها إلَّا مَنويَّةً، فلا تَفتَقِرُ إلى قَصدٍ يُمَيِّزُها عن غَيرِها مِنَ العاداتِ [52] يُنظر: ((عمدة القاري)) لبدر الدين العيني (1/314). وينظر أيضًا: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/ 209- 210). .
3- التَّسبيحُ والتَّقديسُ والتَّهليلُ والتَّكبيرُ والثَّناءُ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ بما لا يُشارَكُ فيه، وكَذا الأذانُ: فهذه لا يُحتاجُ فيها إلى نيَّةٍ [53] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/ 210). .

انظر أيضا: