المَطلبُ الرَّابعُ: الهَمُّ بالحَسَنةِ يُكتَبُ حَسَنةً، والهَمُّ بالسَّيِّئةِ لا يُكتَبُ سَيِّئةً
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الهَمُّ بالحَسَنةِ يُكتَبُ حَسَنةً، والهَمُّ بالسَّيِّئةِ لا يُكتَبُ سَيِّئةً"
[54] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 34)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 42). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالهَمُّ: تَرجيحُ قَصدِ الفِعلِ، وهو فوقَ مُجَرَّدِ خُطورِ الشَّيءِ بالقَلبِ
[55] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/323). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عن قاعِدة (الأُمورُ بمَقاصِدِها)؛ فإنَّه إذا عَقدَ إنسانٌ قَلبَه على فِعلِ طاعةٍ ولم يَعمَلْها فإنَّه يُثابُ عليها، وهذا مَعنى أنَّ الهَمَّ بالطَّاعةِ طاعةٌ، فيُثابُ العَبدُ عليها حينَئِذٍ، وإن قَصَد السَّيِّئةَ بقَلبِه بأن هَمَّ على فِعلِها ولم يَفعَلْها، فإنَّه لا يُحاسَبُ عليها، فلا تُكتَبُ مَعصيةً؛ لأنَّ تَركَ عَمَلِ السَّيِّئةِ التي وقَعَ الهَمُّ بها يُكَفِّرُها
[56] قال الخَطَّابيُّ: (مَحَلُّ كِتابةِ الحَسَنةِ على التَّركِ أن يَكونَ التَّارِكُ قد قدَرَ على الفِعلِ ثُمَّ تَرَكَه؛ لأنَّ الإنسانَ لا يُسَمَّى تارِكًا إلَّا مَعَ القُدرةِ). يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/326،325). ، وهذا ما لم يُصاحِبِ الهَمَّ تَصميمٌ وعَزمٌ، فلو صاحَبَه تَصميمٌ وعَزمٌ فإنَّه يَأثَمُ
[57] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (1/424)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (1/342:340)، ((شرح النووي على مسلم)) (2/151)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/324)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/174). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِدَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران: 122] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ لم يُؤاخِذْهم على هَمِّهم بالانصِرافِ مِنَ الغَزوِ؛ إذ لو آخَذَهم لم يَكُنِ اللهُ وَلِيَّهما
[58] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 229)، ((تفسير القرطبي)) (4/186)، ((المنثور)) للزركشي (2/35). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيما يَروي عن رَبِّه عَزَّ وجَلَّ قال:
((إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذلك؛ فمَن هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها كَتَبها اللَّهُ له عِندَه حَسَنةً كامِلةً، فإن هو هَمَّ بها فعَمِلَها كَتَبَها اللهُ له عِندَه عَشرَ حَسَناتٍ إلى سَبعِ مِائةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كَثيرةٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها كَتَبَها اللَّهُ له عِندَه حَسَنةً كامِلةً، فإن هو هَمَّ بها فعَمِلَها كَتَبَها اللهُ له سَيِّئةً واحِدةً )) [59] أخرجه البخاري (6491) واللفظ له، ومسلم (131). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
((إذا هَمَّ عَبدي بسَيِّئةٍ فلا تَكتُبوها عليه، فإن عَمِلَها فاكتُبوها سَيِّئةً، وإذا هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها فاكتُبوها حَسَنةً، فإن عَمِلَها فاكتُبوها عَشرًا )) [60] أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (128) واللفظ له. .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِمِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- المُنقَطِعُ عنِ الجَماعةِ لعُذرٍ مِن أعذارِها إذا كانت نيَّتُه حُضورَها لولا العُذرُ، فإنَّه يَحصُلُ له ثَوابُها لهَمِّه بحُضورِها
[61] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/174)، ((قضاء الأرب في مسائل حلب)) لتقي الدِّينِ السُّبكيِّ (ص: 339)، وقد فصَّل تَقيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ في هذه المَسألةِ، فقال: (مَن كانت عادَتُه أن يُصَلِّيَ جَماعةً، وتَعذَّرَ عليه، فصَلَّى مُنفرِدًا لعُذرٍ، يُكتَبُ له ثَوابُ الجَماعةِ. وإن لم تَكُنْ له عادةٌ بذلك، ولكِنَّه أرادَ أن يُصَلِّيَ جَماعةً، فتَعَذَّرَت عليه، فصَلَّى مُنفرِدًا، لا يُكتَبُ له ثَوابُ الجَماعةِ، لكِن يُكتَبُ له ثَوابُ قَصدِه لذلك، وهيَ جَماعةٌ أيضًا، لكِنَّها دونَ الأولى؛ لأنَّها قَصدٌ مُجَرَّدٌ، والأُخرى سَبَقَها فِعلٌ، ومَن صَلَّى مُنفرِدًا في مَوضِعٍ لا يُمكِنُه أن يُصَلِّيَ فيه جَماعةً، ولم يَكُنْ له عادةٌ، لم يُكتَبْ له ثَوابُ جَماعةٍ؛ لأنَّه ما وُجِدَ مِنه قَصدٌ ولا عادةٌ، وإنَّما قُلتُ: إنَّه يُكتَبُ لمَن له عادةٌ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إذا مَرِضَ العَبدُ أو سافرَ، كَتَبَ اللَّهُ له ما كان يَعمَلُ صحيحًا مُقيمًا"، وإنَّما قُلتُ: إنَّه يُكتَبُ للمَعذورِ الذي لا عادةَ له؛ لقَولِه تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 95، 96]، فالذينَ فُضِّل عليهم همُ المَعذورونَ، والذينَ فضل عليهم دَرَجاتٍ غَيرُ المَعذورينَ. وإنَّما قُلتُ: إنَّ أجرَ الهَمِّ غَيرُ أجرِ الفِعلِ، فلأنَّ أجرَ الفِعلِ يُضاعَفُ، وأجرُ الهَمِّ غَيرُ مُضاعَفٍ، كَما يُفهَمُ من حديثِ: "إذا همَّ عَبدي بحَسَنةٍ فاكتُبوها له حَسَنةً، فإن عَمِلَها فاكتُبوها له عَشرًا"). .
2- مَن نَوى عَمَلًا صالحًا، وعَمِلَ مِنه ما يَقدِرُ عليه، وعَجَزَ عن إكمالِه، كان له أجرُ مَن عَمِلَ العَمَلَ كامِلًا
[62] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/ 243). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءاتٌ:استَثنى العُلماءُ مِن عَدَمِ المُؤاخَذةِ بالهَمِّ على المَعصيةِ ما لو همَّ بمَعصيةٍ في الحَرَمِ؛ فإنَّه يُؤاخَذُ عليها
[63] يُنظر: ((تحفة الراكع والساجد)) للجراعي (ص: 202)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/174)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/326). ؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25].
فائِدةٌ:ذَكَر تَقيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ أنَّ الذي يَقَعُ في النَّفسِ مِن قَصدِ المَعصيةِ خَمسُ مَراتِبَ:
أوَّلُها: الهاجِسُ: وهو ما يُلقى فيها، ثُمَّ جَرَيانُه فيها، وهو الخاطِرُ، ثُمَّ حَديثُ النَّفسِ: وهو ما يَقَعُ فيها مِنَ التَّرَدُّدِ هَل يَفعَلُ أو لا؟ ثُمَّ الهَمُّ، وهو: ما يُرَجِّحُ قَصدَ الفِعلِ، يُقالُ: هَمَمتُ بالأمرِ: أي: قَصَدتُه بهمَّتي. ثُمَّ العَزمُ: وهو قوَّةُ ذلك القَصدِ والجَزمُ به؛ فإنَّ العَزمَ في اللُّغةِ الجِدُّ وعَقدُ القَلبِ. فالهاجِسُ لا يُؤخَذُ به إجماعًا؛ لأنَّه ليسَ مِن فِعلِه، وإنَّما هو شَيءٌ ورَدَ عليه لا قُدرةَ له عليه، ولا صُنعَ.
والخاطِرُ الذي بَعدَه كان قادِرًا على دَفعِه بصَرفِ الهاجِسِ أوَّلَ وُرودِه، ولكِنَّه هو وما بَعدَه من حديثِ النَّفسِ مَرفوعانِ.
وإذا ارتَفعَ حَديثُ النَّفسِ ارتَفعَ ما قَبلَه بالطَّريقِ الأَولى.
وهذه المَراتِبُ الثَّلاثُ أيضًا لو كانت في الحَسَناتِ لم يُكتَبْ له بها أجرٌ.
والمَرتَبةُ الرَّابعةُ: الهَمُّ، وقد بَيَّنَ الحَديثُ أنَّ الهَمَّ بالحَسَنةِ يُكتَبُ حَسَنةً، والهَمَّ بالسَّيِّئةِ لا يُكتَبُ سَيِّئةً، ويُنتَظَرُ فإن تَركَها كُتِبَت له حَسَنةً، وإن فَعَلها كُتِبَت سَيِّئةً واحِدةً
[64] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يَروي عن رَبِّه تَبارَكَ وتعالى، قال: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذلك، فمَن هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها كَتَبَها اللهُ عِندَه حَسَنةً كامِلةً، وإن هَمَّ بها فعَمِلها، كَتَبَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ عِندَه عَشرَ حَسَناتٍ إلى سَبعِ مِئةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كَثيرةٍ، وإن هَمَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها كَتَبَها اللهُ عِندَه حَسَنةً كامِلةً، وإن هَمَّ بها فعَمِلَها كَتَبَها اللهُ سَيِّئةً واحِدةً. أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131) واللَّفظُ له. .
والأصَحُّ في مَعناه أنَّه يُكتَبُ عليه الفِعلُ وَحدَه، وأنَّ الهَمَّ مَرفوعٌ.
المَرتَبةُ الخامِسةُ: العَزمُ، والمُحَقِّقونَ على أنَّه يُؤاخَذُ بالعَزمِ على السَّيِّئةِ، وخالف بَعضُهم فقال: إنَّه مِنَ الهَمِّ المَرفوعِ
[65] يُنظر: ((قضاء الأرب في أسئلة حلب)) (ص: 158-161). .