المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: النِّيابةُ تَجري في العِبادةِ الماليَّةِ المَحضةِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "النِّيابةُ تَجري في العِبادةِ الماليَّةِ المَحضةِ"
[6242] يُنظر: ((البناية)) للعيني (4/470). ، وصيغةِ: "يَجوزُ دُخولُ النِّيابةِ في المَأمورِ به إذا كان ماليًّا"
[6243] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/1110). ، وصيغةِ: "النِّيابةُ في الحُقوقِ الماليَّةِ لا تُمنَعُ"
[6244] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (3/2/416). ، وصيغةِ: "أُصولُ الشَّريعةِ تَقتَضي جَوازَ النِّيابةِ في الحُقوقِ الماليَّةِ"
[6245] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (3/2/416). ، وصيغةِ: "النِّيابةُ تَجزي في العِبادةِ الماليَّةِ عِندَ العَجزِ والقُدرةِ"
[6246] يُنظر: ((كنز الدقائق)) للنسفي (ص: 248)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/85). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العِباداتِ الماليَّةَ المَحضةَ كالزَّكاةِ، والصَّدَقاتِ، والكَفَّاراتِ، والنُّذورِ، تَجوزُ فيها النِّيابةُ على الإطلاقِ في حالَتَيِ الاختيارِ والضَّرورةِ؛ حَيثُ تَتَحَقَّقُ مَصلَحَتُها بحُصولِ الفِعلِ مَعَ قَطعِ النَّظَرِ عَن فاعِلِه، وسَواءٌ كان مَن عليه العِبادةُ قادِرًا على الأداءِ بنَفسِه، أو لا؛ لأنَّ الواجِبَ فيها إخراجُ المالِ، والمَقصودُ مِنها صَرفُ المالِ إلى سَدِّ خَلَّةِ المُحتاجِ، وذلك يَحصُلُ بفِعلِ النَّائِبِ
[6247] يُنظر: ((شرح مختصر الكرخي)) للقدوري (2/654)، ((المبسوط)) للسرخسي (4/152)، ((شرح التلقين)) للمازري (3/2/416)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/212)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/194)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/307)، ((البناية)) للعيني (4/470)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/475)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (42/28). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عليْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ جَوَّزَ العَمَلَ على الزَّكاةِ، وذلك بحُكمِ النِّيابةِ عَنِ المُستَحِقِّينَ لها
[6248] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (42/29). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عَن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إنَّ الخازِنَ المُسلِمَ الأمينَ الذي يُنفِذُ -ورُبَّما قال: يُعطي- ما أُمِرَ به فيُعطيه كامِلًا موفَّرًا طَيِّبةً به نَفسُه فيَدفَعُه إلى الذي أُمِرَ له به: أحَدُ المُتَصَدِّقينَ )) [6249] أخرجه البحاري (1438)، ومسلم (1023) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على جَوازِ الوكالةِ، وهيَ عِبارةٌ عَن تَفويضِ شَخصٍ ما له فِعلُه مِمَّا يَقبَلُ النِّيابةَ إلى غَيرِه ليَفعَلَه في حَياتِه
[6250] يُنظر: ((العقود المضافة إلى مثلها)) لعبد الله بن طاهر (ص: 174). .
- وعَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُعاذِ بنِ جَبَلٍ حينَ بَعَثَه إلى اليَمَنِ:
((إنَّكَ سَتَأتي قَومًا أهلَ كِتابٍ، فإذا جِئتَهم فادعُهم إلى أن يَشهَدوا أن لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، فإن هم أطاعوا لَكَ بذلك فأخبِرْهم أنَّ اللهَ قد فرَضَ عليهم خَمسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيلةٍ، فإن هم أطاعوا لَكَ بذلك، فأخبِرْهم أنَّ اللهَ قد فرَضَ عليهم صَدَقةً تُؤخَذُ مِن أغنيائِهم فتُرَدُّ على فُقَرائِهم، فإن هم أطاعوا لَكَ بذلك فإيَّاكَ وكَرائِمَ أموالِهم، واتَّقِ دَعوةَ المَظلومِ؛ فإنَّه ليس بَينَه وبَينَ اللهِ حِجابٌ )) [6251] أخرجه البخاري (1496) واللفظ له، ومسلم (19). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ مُعاذًا بأن يُخبِرَهم بأنَّ عليهم صَدَقةً تُؤخَذُ مِن أغنيائِهم وتُرَدُّ على فُقَرائِهم نيابةً عَنهم، وهذا يَدُلُّ على جَوازِ النِّيابةِ في تَفريقِ الزَّكاةِ، وإذا جازَتِ النِّيابةُ بغَيرِ طَلَبٍ مِنَ المَنوبِ عَنه جازَتِ الوكالةُ مِن بابِ أولى
[6252] يُنظر: ((نوازل الزكاة)) لعبدالله الغفيلي (ص: 515). .
3- مِنَ الإجماعِ:وممَّن حكاه: القَرافيُّ
[6253] قال: (قاعِدةٌ: الأفعالُ قِسمانِ: مِنها: ما يَشتَمِلُ على مَصلَحةٍ مَعَ قَطعِ النَّظَرِ عَن فاعِلِه، كَرَدِّ الودائِعِ وقَضاءِ الدُّيونِ ونَحوِها، فتَصِحُّ فيها النِّيابةُ إجماعًا؛ لأنَّ المَقصودَ انتِفاعُ أهلِها بها، وذلك حاصِلٌ بنَفسِ الدَّفعِ؛ ولِذلك لَم يُشتَرَطْ فيها النِّياتُ). ((الذخيرة)) (3/194). ، والهِنديُّ
[6254] قال: (اتَّفَقوا على جَوازِ دُخولِ النِّيابةِ في المَأمورِ به، إذا كان ماليًّا، وعَلى وُقوعِه أيضًا؛ إذ أجمَعوا على أنَّه يَجوزُ للغَنيِّ أن يَصرِفَ زَكاةَ مالِه بنَفسِه، وأن يوكِّلَ فيهـ). ((نهاية الوصول)) (3/1110). ، وابنُ العَطَّارِ
[6255] قال: (لا شَكَّ أنَّ العِباداتِ: ماليَّةٌ، وبَدَنيَّةٌ؛ فالماليَّةُ كالزَّكاةِ والكَفَّارةِ والنَّذرِ، والبَدَنيَّةُ كالصَّلاةِ والصَّومِ. ومُشتَرَكٌ بَينَ البَدَنيَّةِ والماليَّةِ كالحَجِّ والجِهادِ. فاعلَم أنَّ الماليَّةَ يَجِبُ قَضاؤُها مِن مالِ المَيِّتِ، وتَدخُلُها النِّيابةُ إجماعًا). ((العدة)) (3/1544). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ:تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- يَجوزُ تَوكيلُ الجَمعيَّاتِ الخَيريَّةِ والمَراكِزِ الإسلاميَّةِ لإخراجِ الزَّكاةِ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ صَرفَ زَكاةِ الأموالِ الظَّاهرةِ إلى الإمامِ إمَّا واجِبٌ أو مَندوبٌ، ومَعلومٌ أنَّه لَم يَصرِفْها إلى الفُقَراءِ إلَّا بطَريقةِ النِّيابةِ
[6256] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/1110)، ((نوازل الزكاة)) لعبدالله الغفيلي (ص: 515). .
2- الصَّدَقةُ تُجزِئُ فيها النِّيابةُ، فتَجوزُ الصَّدَقةُ عَنِ الغَيرِ، فأداءُ الغَيرِ بأمرِه كَأدائِه بنَفسِه، وهذا لحُصولِ المَقصودِ به، وهو إغناءُ المُحتاجِ، وهيَ عِبادةٌ؛ لأنَّها إنَّما تَكونُ صَدَقةً إذا قُصِدَ بها وجهُ اللهِ تَعالى وامتِثالُ أمرِه، فإذا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ عَنِ الرَّجُلِ أجزَأ ذلك عَنِ المُتَصَدَّقِ عَنه وانتَفَعَ به، ولا سيَّما إن كان مَيِّتًا، فهذه عِبادةٌ قد حَصَلَت فيها النِّيابةُ
[6257] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/35)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/387). .
3- تَجوزُ الوكالةُ فيما تَصِحُّ فيه النِّيابةُ، كالبَيعِ والشِّراءِ والإجارةِ
[6258] يُنظر: ((المختصر الفقهي)) لابن عرفة (7/58). .
4- تَجوزُ النِّيابةُ في رَدِّ الدُّيونِ والودائِعِ
[6259] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/312). .