المَطلَبُ الرَّابِعُ: العِباداتُ لا تَبطُلُ بشَيءٍ مِن مُبطِلاتِها إذا وُجِدَت بَعدَ الفَراغِ مِنها، والشَّكُّ في العِبادةِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لا يُؤَثِّرُ فيها
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذا المَعنى في الصِّيَغِ الآتيةِ: صيغةِ: "العِبادةُ بَعدَ الفَراغِ عَنها لا تَقبَلُ البُطلانَ إلَّا بالرِّدَّةِ"
[6058] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (1/450). ، وصيغةِ: "الشَّكُّ لا يُؤَثِّرُ بَعدَ الفَراغِ مِنَ العِبادةِ"
[6059] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (3/18). ، وصيغةِ: "الشَّكُّ في العِبادةِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لا يُؤَثِّرُ شَيئًا"
[6060] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (4/277)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/1280)، ((التحفة المكية)) للشاوي (ص: 296). ، وصيغةِ: "الشَّكُّ الطَّارِئُ بَعدَ الفَراغِ مِنَ العِبادةِ لا يَقدَحُ في العِبادةِ"
[6061] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (4/29). ، وصيغةِ: "الشَّكُّ الطَّارِئُ بَعدَ الفَراغِ مِنَ العِبادةِ لا تَأثيرَ له"
[6062] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (1/143). ، وصيغةِ: "الشَّكُّ الطَّارِئُ بَعدَ الفَراغِ لا حُكمَ له"
[6063] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (1/382). ، وصيغةِ: "قَطعُ نيَّةِ العِبادةِ بَعدَ فِعلِها لا يُؤَثِّرُ"
[6064] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/206). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العِباداتِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لا تَقبَلُ البُطلانَ، فلا تَبطُلُ بشَيءٍ مِن مُبطِلاتِها إذا وُجِدَت بَعدَ الفَراغِ مِنها، والشَّكُّ في العِبادةِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لا يُؤَثِّرُ في صِحَّتِها، سَواءٌ وقَعَ الشَّكُّ في النِّيَّةِ، أو في أجزاءِ العِبادةِ، فلا يُؤَثِّرُ إلَّا مَعَ اليَقينِ، فالمُقَرَّرُ شَرعًا أنَّ العِبادةَ بَعدَ الفَراغِ مِنها صَحيحةٌ لا يَلحَقُها الإفسادُ؛ ضَرورةَ أنَّ الواقِعَ يَستَحيلُ رَفعُه إلَّا بأسبابٍ يُصارُ إلَيها بالدَّليلِ كالرِّدَّةِ؛ فإنَّها تُفسِدُ الأعمالَ الصَّالِحةَ.
وهذه القاعِدةُ تُبَيِّنُ صورةً مِنَ الصُّورِ التي لا يُلتَفَتُ فيها إلى الشَّكِّ، وهيَ ثَلاثُ صورٍ:
الأولى: إذا كان مُجَرَّدَ وهمٍ لا حَقيقةَ له، كالوساوِسِ.
الثَّانيةُ: إذا كَثُرَ مَعَ الشَّخصِ بحَيثُ لا يَفعَلُ عِبادةً إلَّا حَصَلَ له فيها شَكٌّ.
الثَّالِثةُ: إذا كان بَعدَ الفَراغِ مِنَ العِبادةِ، فلا يُلتَفَتُ إلَيه ما لَم يَتَيَقَّنِ الأمرَ، فيَعمَلُ بمُقتَضى يَقينِه
[6065] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (1/450)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/1280)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/241)، ((الشرح الممتع)) (1/206)، ((رسالة في سجود السهو)) (ص: 146) كلاهما لابن عثيمين، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (5/288). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ الإجماعِ:فقد حَكاه السُّيوطيُّ على كَونِ نيَّةِ قَطعِ الصَّلاةِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لا يُبطِلُها
[6066] قال: (لو نَوى قَطعَ الصَّلاةِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لَم تَبطُلْ بالإجماعِ، وكَذا سائِرُ العِباداتِ، وفي الطَّهارةِ وجهٌ؛ لأنَّ حُكمَها باقٍ بَعدَ الفَراغِ). ((الأشباه والنظائر)) (ص: 38). .
2- مِنَ القواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقَواعِدِ الآتيةِ:
1- قاعِدةُ: (الشَّكُّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها).
2- القاعِدةُ الكُبرى (المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسيرَ)؛ حَيثُ إنَّ الالتِفاتَ إلى الشَّكِّ بَعدَ الفَراغِ مِنَ العِبادةِ لَو كُلِّفَ به العَبدُ لَأدَّى ذلك إلى الحَرَجِ والمَشَقَّةِ
[6067] يُنظر: ((موسوعة أحكام الطهارة)) للدبيان (7/288). .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (فرَّقَ الشَّافِعيُّ بَينَ الشَّكِّ في الفِعلِ، والشَّكِّ بَعدَه، فلَم يوجِبْ إعادةَ المَفعولِ بَعدَ الشَّكِّ، ووَجهُ الفَرقِ: أنَّ أحَدَهما يُؤَدِّي إلى المَشَقَّةِ، وهو الشَّكُّ بَعدَ الفِعلِ؛ فإنَّ المُصَلِّيَ لَو كُلِّفَ أن يَكونَ ذاكِرًا لِما صَلَّى تَعَذَّرَ ذلك عليه، ولَم يُطِقْه أحَدٌ مِنَ النَّاسِ)
[6068] ((الأشباه والنظائر)) (2/333). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها
[6069] تُنظَرُ فُروعٌ أُخرى في قاعِدةِ (الشَّكُّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها) في الفَصلِ الثَّاني مِنَ البابِ الثَّاني. :
1- إذا نَوى قَطعَ الوُضوءِ بَعدَ الفَراغِ مِنه، فلا يَنتَقِضُ وُضوؤُه؛ لأنَّه نَوى القَطعَ بَعدَ تَمامِ الفِعلِ، وقَطعُ نيَّةِ العِبادةِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لا أثَرَ له
[6070] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/206)، ((الفقه الميسر)) لعبد الله الطيار وآخرين (1/80). .
2- إذا شَكَّ المُسلِمُ بَعدَ الوُضوءِ، هَل أخَلَّ بشَيءٍ مِن أعضائِه؟ أجزَأه؛ لأنَّه يُحكَمُ بصِحَّةِ الوُضوءِ إذا فرَغَ مِنه، فلا تَزولُ الصِّحَّةُ بالشَّكِّ، ولا أثَرَ للشَّكِّ في العِبادةِ بَعدَ الفَراغِ منها
[6071] يُنظر: ((إيضاح الدلائل)) للزريراني (ص: 225). .
3- إذا قَرَأ المُصَلِّي الفاتِحةَ ثُمَّ شَكَّ بَعدَ الفَراغِ مِنها في حَرفٍ فلا أثَرَ له
[6072] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/258). .
4- إذا فرَغَ المُسلِمُ مِنَ الحَجِّ أوِ العُمرةِ، ثُمَّ شَكَّ هَل طافَ فيه أم لا؟ أجزَأه؛ لأنَّه يُحكَمُ بصِحَّةِ النُّسُكِ إذا فُرِغَ مِنه، فلا تَزولُ الصِّحَّةُ بالشَّكِّ. وكَذا إن شَكَّ: هَل طافَ مُحدِثًا أو مُتَطَهِّرًا؟ لَم يَلزَمْه شَيءٌ؛ لأنَّ الشَّكَّ في العِبادةِ بَعدَ الفَراغِ مِنها لا يُؤَثِّرُ فيها، والشُّكوكُ التي تَرِدُ بَعدَ الفَراغِ مِنَ العِبادةِ لا يُعَوَّلُ عليها، ولا يُلتَفَتُ إليها
[6073] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (4/277)، ((إيضاح الدلائل)) للزريراني (ص: 225)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (17/38). .