المَطلَبُ الثَّاني: العِباداتُ مَبناها على الاحتياطِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العِباداتُ مَبناها على الاحتياطِ"
[6032] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 198). ويُنظر أيضًا: ((بحر المذهب)) للروياني (2/298)، ((عدة البروق)) للونشريسي (ص: 136). ، وصيغةِ: "العِباداتُ مَبنيَّةٌ على الاحتياطِ"
[6033] يُنظر: ((التوسط بين مالك وابن القاسم)) للجبيري (ص: 41)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/466). ، وصيغةِ: "العِباداتُ يَجِبُ فيها الاحتياطُ"
[6034] يُنظر: ((المثل السائر)) لابن الأثير (3/32). ، وصيغةِ: "الاحتياطُ في العِباداتِ واجِبٌ"
[6035] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (1/268)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/350)، ((تفسير الألوسي)) (15/322). ، وصيغةِ: "الاحتياطُ في العِباداتِ أولى"
[6036] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/244)، ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (2/198). ، وصيغةِ: "طَريقُ العِبادةِ الاحتياطُ في البِناءِ على المُتَيَقَّنِ به دونَ المُحتَمَلِ"
[6037] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 241). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.مَعنى الاحتياطِ: الأخذُ بالثِّقةِ، والتَّأكُّدُ مِنَ الشَّيءِ للِاطمِئنانِ له.
وتُفيدُ القاعِدةُ الأخذَ بالاحتياطِ في البِناءِ على المُتَيَقَّنِ به دونَ المُحتَمَلِ، فالقاعِدةُ المُستَقِرَّةُ وُجوبُ القيامِ بالعِبادةِ بتَمامِها؛ لتَبرَأَ الذِّمَّةُ مِنها، فإن طَرَأ شَكٌّ أو تَرَدُّدٌ في أدائِها كامِلةً، أو في أداءِ بَعضِ أركانِها، فعَلى المُكَلَّفِ العَمَلُ بما هو أوثَقُ وأحوطُ في دينِه؛ لأنَّ ذِمَّتَه ما زالَت مَشغولةً بالعِبادةِ المَطلوبةِ يَقينًا، فتُؤَدَّى على وَجهِ اليَقينِ أو غَلَبةِ الظَّنِّ لتَبرَأَ الذِّمَّةُ
[6038] يُنظر: ((المبسوط)) (4/116) ((شرح السير الكبير)) (ص: 241) كلاهما للسرخسي، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/599). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الكُبرى: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن نَسيَ صَلاةً مِن صَلَواتِ اليَومِ واللَّيلةِ لا يَعرِفُها يَلزَمُه قَضاءُ صَلاةِ يَومٍ ولَيلةٍ؛ أخذًا بالاحتياطِ في العِبادةِ، فيُصَلِّي خَمسَ صَلَواتٍ حَتَّى يَتَيَقَّنَ مِن بَراءةِ ذِمَّتِه
[6039] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/117)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/599). .
2- اختَلَفَتِ الآثارُ في الواجِبِ مِنَ الحِنطةِ في زَكاةِ الفِطرِ، هَل هو صاعٌ أو نِصفُ صاعٍ؟ والأخذُ بالاحتياطِ في بابِ العِباداتِ واجِبٌ، والاحتياطُ في إتمامِ الصَّاعِ
[6040] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/112)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/600). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تنبيهاتٌ:1- يُؤخَذُ بالاحتياطِ في العِباداتِ ما لَم يَخرُجْ إلى حَدِّ الوَسوسةِ
[6041] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/179)، ((الإيجاز في شرح سنن أبي داود)) (ص: 398)، (المجموع)) (1/351) جميعها للنووي، ((العدة)) لابن العطار (1/66). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (فصلٌ في الجَوابِ عَمَّا احتَجَّ به أهلُ الوسواسِ.
أمَّا قَولُهم: إنَّ ما نَفعَلُه احتياطٌ لا وسواسٌ.
قُلنا: سَمُّوه ما شِئتُم، فنَحنُ نَسألُكُم: هَل هو موافِقٌ لفِعلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمرِه وما كان عليه أصحابُه، أو مُخالِفٌ؟
فإن زَعَمتُم أنَّه موافِقٌ فبُهتٌ وكَذِبٌ صَريحٌ، فإذَن لا بُدَّ مِنَ الإقرارِ بعَدَمِ موافَقَتِه وأنَّه مُخالِفٌ له، فلا يَنفَعُكُم تَسميةُ ذلك احتياطًا، وهذا نَظيرُ مَنِ ارتَكَبَ مَحظورًا وسَمَّاه بغَيرِ اسمِه، كما تُسَمَّى الخَمرُ بغَيرِ اسمِها، والرِّبا: مُعامَلةً، والتَّحليلُ الذي لَعَنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاعِلَه: نِكاحًا... فهَكَذا تَسميةُ الغُلوِّ في الدِّينِ والتَّنَطُّعِ احتياطًا.
ويَنبَغي أن يُعلَمَ أنَّ الاحتياطَ الذي يَنفَعُ صاحِبَه ويُثيبُه اللهُ عليه: الاحتياطُ في موافَقةِ السُّنَّةِ وتَركِ مُخالَفَتِها، والاحتياطُ كُلُّ الاحتياطِ في ذلك، وإلَّا فما احتاطَ لنَفسِه مَن خَرَجَ عَنِ السُّنَّةِ، بَل تَرَكَ حَقيقةَ الاحتياطِ في ذلك)
[6042] ((إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان)) (1/ 300). .
2- العِبادةُ إنَّما يُحتاطُ لَها إذا وجَبَت، أمَّا قَبلَ وُجوبِها فلا احتياطَ شَرعًا، وإنَّما تَكونُ بدعةً ومَكروهًا؛ ولِذلك حَذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن صيامِ يَومِ الشَّكِّ على مَعنى الاحتياطِ للعِبادةِ
[6043] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/108). ، فقال مُنَبِّهًا على ذلك:
((لا تَقدَّموا رَمَضانَ بصَومِ يَومٍ ولا يَومَينِ )) [6044] أخرجه مسلم (1082) من حديث أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فائدةٌ:قال ابنُ القَيِّمِ: (قاعِدةٌ في المَسائِلِ التي يَتَعَلَّقُ بها الاحتياطُ الواجِبُ وتَركُ ما لا بَأسَ به حَذَرًا مِمَّا به البَأسُ، ومَدارُها على ثَلاثِ قَواعِدَ: (قاعِدةٌ): في اختِلاطِ المُباحِ بالمَحظورِ حِسًّا: (وقاعِدةٌ): في اشتِباه أحَدِهما بالآخَرِ والتِباسِه به على المُكَلَّفِ. (وقاعِدةٌ): في الشَّكِّ في العَينِ الواحِدةِ، هَل هيَ قِسمٌ مِنَ المُباحِ أو مِن قِسمِ المَحظورِ، فهذه القَواعِدُ الثَّلاثُ هيَ مَعاقِدُ هذا البابِ)
[6045] ((بدائع الفوائد)) (3/1253). .
وقال أيضًا: (فإنَّ الاحتياطَ إنَّما يُشرَعُ إذا لَم تَتَبَيَّنِ السُّنَّةُ، فإذا تَبَيَّنَت فالاحتياطُ هو اتِّباعُها وتَركُ ما خالَفَها، فإن كان تَركُها لأجلِ الاختِلافِ احتياطًا، فتَركُ ما خالَفَها واتِّباعُها أحوطُ وأحوطُ، فالاحتياطُ نَوعانِ: احتياطٌ للخُروجِ مِن خِلافِ العُلَماءِ، واحتياطٌ للخُروجِ مِن خِلافِ السُّنَّةِ، ولا يَخفى رُجحانُ أحَدِهما على الآخَرِ)
[6046] ((زاد المعاد)) (2/257). .