المَطلَبُ الخامِسَ عَشَرَ: العِباداتُ البَدَنيَّةُ لا تُجرى النِّيابةُ في أدائِها
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العِباداتُ البَدَنيَّةُ لا تُجرى النِّيابةُ في أدائِها"
[6222] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/148). ، وصيغةِ: "الأصلُ امتِناعُ النِّيابةِ في العِباداتِ البَدَنيَّةِ، إلَّا ما خَرَجَ بدَليلٍ"
[6223] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/167). ، وصيغةِ: "تُمنَعُ النِّيابةُ في العِباداتِ البَدَنيَّةِ إلَّا ما خَصَّه الشَّرعُ"
[6224] يُنظر: ((تيسير البيان)) لابن نور الدين (4/183). ، وصيغةِ: "لا تَجري النِّيابةُ في أداءِ العِباداتِ البَدَنيَّةِ"
[6225] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/150). ، وصيغةِ: "لا يَعمَلُ أحَدٌ عَن أحَدٍ عَمَلَ الأبدانِ"
[6226] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/68). ، وصيغةِ: "النِّيابةُ لا تَجري في العِبادةِ البَدَنيَّةِ"
[6227] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/238)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/320). ، وصيغةِ: "النِّيابةُ لا تَجري في التَّكاليفِ البَدَنيَّةِ"
[6228] يُنظر: ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/199). ، وصيغةِ: "التَّعَبُّداتُ الشَّرعيَّةُ لا يَقومُ فيها أحَدٌ عَن أحَدٍ ولا يُغني فيها عَنِ المُكَلَّفِ غَيرُه"
[6229] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/381). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.لَمَّا كان المَقصودُ مِنَ العِباداتِ البَدَنيَّةِ المَحضةِ التَّعظيمُ بالجَوارِحِ كالصَّلاةِ، أو إتعابُ النَّفسِ الأمَّارةِ بالسوءِ ابتِغاءَ مَرضاتِ اللهِ تَعالى، وذلك لا يَحصُلُ بالنَّائِبِ أصلًا، فلا تُجزِئُ النِّيابةُ في أدائِها؛ لأنَّ الأبدانَ تُعُبِّدَت بعَمَلٍ، فلا يُجزِئُ عَنها أن يَعمَلَ عَنها غَيرُها؛ إذ لَو صَحَّتِ النِّيابةُ في العِباداتِ البَدَنيَّةِ لَصَحَّت في الأعمالِ القَلبيَّةِ، كالإيمانِ وغَيرِه مِنَ الصَّبرِ والشُّكرِ، والرِّضا والتَّوكُّلِ، والخَوفِ والرَّجاءِ، وما أشبَهَ ذلك، ولَو كان ذلك كذلك لَم تَكُنِ التَّكاليفُ مَحتومةً على المُكَلَّفِ عَينًا؛ لجَوازِ النِّيابةِ فيها حينَئِذٍ
[6230] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/68)، ((المبسوط)) للسرخسي (4/152)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/194)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/384)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/167)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/307). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قال اللهُ تعالى:
وَأَنْ لَيْسَ للْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أخبَرَ تَعالى أنَّه ليس للإنسانِ إلَّا سَعيُ نَفسِه، فتَدُلُّ الآيةُ على أنَّ ما تَمَحَّضَ مِن عِباداتِ الأبدانِ لا تَصِحُّ فيها النِّيابةُ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ، سَواءٌ عَن قادِرٍ أو عاجِزٍ
[6231] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/313)، ((بحر المذهب)) للروياني (10/414)، ((مقاصد المكلفين)) لعمر الأشقر (ص: 267). .
2- مِنَ الإجماعِ:فقد حُكيَ في بَعضِ صورِ القاعِدةِ، وهيَ امتِناعُ النِّيابةِ في الإيمانِ والصَّلاةِ والصَّومِ، ومِمَّن حَكاه: الماوَرديُّ
[6232] قال: (أمَّا الصِّيامُ عَنِ الحَيِّ فلا يَجوزُ إجماعًا بأمرٍ أو غَيرِ أمرٍ، عَن قادِرٍ أو عاجِزٍ). ((الحاوي الكبير)) (15/313). ، والقَرافيُّ
[6233] قال: (قاعِدةٌ: الأفعالُ قِسمانِ:... ومِنها: ما لا يَتَضَمَّنُ مَصلَحةً في نَفسِه بَل بالنَّظَرِ إلى فاعِلِه كالصَّلاةِ؛ فإنَّ مَصلَحَتَها الخُشوعُ والخُضوعُ وإجلالُ الرَّبِّ سُبحانَه وتَعظيمُه، وذلك إنَّما يَحصُلُ فيها مِن جِهةِ فاعِليها، فإذا فعَلَها غَيرُ الإنسانِ فاتَتِ المَصلَحةُ التي طَلَبَها اللهُ تَعالى مِنه، فلا توصَفُ بكَونِها حينَئِذٍ مَشروعةً في حَقِّه، فلا يَجوزُ فيها النِّيابةُ إجماعًا). ((الذخيرة)) (3/194). ، والزَّركَشيُّ
[6234] قال: (النِّيابةُ في العِباداتِ، مِنها ما لا يُقبَلُ بالإجماعِ، كالإيمانِ باللهِ، والصَّلاةِ والصَّومِ عَنِ الحَيِّ القادِرِ). ((المنثور)) (3/312). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ:مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الصَّومُ عِبادةٌ لا تَجري النِّيابةُ في أدائِها حالَ الحَياةِ، فلا يَصومُ أحَدٌ عَن أحَدٍ، كما لا يُصَلِّي أحَدٌ عَن أحَدٍ، فلَو أنَّ رَجُلًا صامَ عَن رَجُلٍ بأمرِه لَم يُجزِه الصَّومُ عَنه، وذلك أنَّه لا يَعمَلُ أحَدٌ عَن أحَدٍ عَمَلَ الأبدانِ
[6235] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/68)، ((المبسوط)) للسرخسي (3/89). .
2- لا تَجوزُ النِّيابةُ في الاعتِكافِ وقِراءةِ القُرآنِ والأذكارِ بحالٍ مِنَ الأحوالِ لا في حالةِ العَجزِ ولا في حالةِ القُدرةِ؛ لأنَّها عِبادةٌ بَدَنيَّةٌ، ولا تَجوزُ النِّيابةُ في البَدَنيَّةِ المَحضةِ
[6236] يُنظر: ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/307). .
3- لا يَجوزُ الاستِئجارُ على العِباداتِ البَدَنيَّةِ المَحضةِ؛ فإنَّه إذا لَم تَجرِ النِّيابةُ في العِباداتِ البَدَنيَّةِ المَحضةِ، فلا يَجري فيها الاستِئجارُ مِن بابِ أولى
[6237] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (4/164)، ((العزيز)) للرافعي (6/102)، ((شفاء العليل)) لابن عابدين (ص: 165). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استثناءاتٌ:يُستثنى من القاعِدةِ بعضُ الصُّوَرِ، منها:
1- يَجوزُ الصَّومُ عَنِ المَيِّتِ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن ماتَ وعليه صيامٌ صامَ عَنه وليُّه )) [6238] أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، فدَلَّ على جَوازِ النِّيابةِ فيه بَعدَ المَوتِ
[6239] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (10/414)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (4/245). .
2- تَجوزُ النِّيابةُ في الحَجِّ عِندَ عَدَمِ القُدرةِ وتَحَقُّقِ العَجزِ عَنِ الأداءِ بالبَدَنِ؛ لثُبوتِ ذلك بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعَن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ مَرَّ به رَجُلٌ يُهلُّ يَقولُ: لَبَّيكَ بحَجَّةٍ عَن شُبرُمةَ، قال: وما شُبرُمةُ؟ قال: رَجُلٌ أوصى أن يُحَجَّ عَنه، قال: أحَجَجتَ أنتَ؟ قال: لا، قال: فابدَأْ أنتَ فحُجَّ عَن نَفسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَن شُبرُمةَ
[6240] أخرجه ابن وهب في ((الجامع)) (160)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (6/381) واللفظ له، والبيهقي (9943). صحَّحه الإمام أحمد كما في ((المحرر)) لمحمد ابن عبد الهادي (251)، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (1/307)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (11/25): الصَّحيحُ أنَّه موقوفٌ على ابنِ عباسٍ، ووثَّق رجاله شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (6/381). . ولِأنَّ الحَجَّ ليس عِبادةً بَدَنيَّةً مَحضةً، وإنَّما يَجمَعُ بَينَ العِبادةِ البَدَنيَّةِ والماليَّةِ
[6241] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/68)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/313)، ((المبسوط)) للسرخسي (4/152)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/1113). .