المَطلَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الأصلُ في كُلِّ ما أُخرِجَ للهِ تَعالى أنَّه لا يَجوزُ الرُّجوعُ في شَيءٍ منه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ في كُلِّ ما أُخرِجَ للهِ تَعالى أنَّه لا يَجوزُ الرُّجوعُ في شَيءٍ منه"
[6201] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/391)، ((التوضيح)) لابن الملقن (12/91). ، وصيغةِ: "ما أُخرِجَ لِلَّهِ فغَيرُ جائِزٍ الرُّجوعُ في شَيءٍ مِنه والانتِفاعُ به إلَّا عِندَ الضَّرورةِ"
[6202] يُنظر: ((التوضيح)) لابن الملقن (12/29). ، وصيغةِ: "مَعقولُ ما أُخرِجَ للهِ عَزَّ وجَلَّ أن لا يَعودَ إلى مالِكِه، إلَّا ما أذِنَ اللهُ فيه أو رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"
[6203] يُنظر: ((مختصر المزني)) (2/560). ، وصيغةِ: "ما أُخرِجَ للهِ لا يُمكِنُ أن يَعتاضَ الإنسانُ عَنه شَيئًا مِنَ الدُّنيا"
[6204] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (25/188). ، وصيغةِ: "ما خَرَجَ للهِ تَعالى فلا عَودةَ فيه"
[6205] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (4/250). ، وصيغةِ: "كُلُّ ما يَكونُ لثَوابِ الآخِرةِ لا رُجوعَ فيه"
[6206] يُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/155). ، وصيغةِ: "ما أُريدَ به اللهُ فَلا رُجوعَ فيه"
[6207] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/411). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ كُلَّ ما أُخرِجَ للهِ تَعالى أنَّه لا يَجوزُ الرُّجوعُ في شَيءٍ مِنه، وجَميعُ الأموالِ المُستَحَقَّةِ في القُرَبِ لا يَجوزُ للمُتَقَرِّبِ بَيعُها، كالزَّكَواتِ والكَفَّاراتِ، وإنَّما خُصَّتِ الضَّحايا بجَوازِ الأكلِ، وليس في إباحةِ الأكلِ دَليلٌ على جَوازِ البَيعِ، فمَن أخرَجَ شَيئًا للهِ عَزَّ وجَلَّ، فلا يَعودُ فيه بحالٍ
[6208] يُنظر: ((مختصر المزني)) (2/560)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/825)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/391)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/119)، ((بحر المذهب)) للروياني (4/215)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/262-263). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قال اللهُ تعالى:
ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 28] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَنُصُّ الآيةُ على أكلِ لَحمِ الأُضحيَّةِ وإطعامِه، فدَلَّت على أنَّ بَيعَ لَحمِ الأُضحيَّةِ لا يَجوزُ في حَقِّ المُضَحِّي؛ فما أُخرِجَ للهِ عَزَّ وجَلَّ لا يَعودُ إلى مالِكِه إلَّا ما أذِنَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ فيه ثُمَّ رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[6209] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/119). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَمَلتُ على فرَسٍ في سَبيلِ اللهِ، فابتاعَه -أو: فأضاعَه- الذي كان عِندَه، فأرَدتُ أن أشتَريَه، وظَنَنتُ أنَّه بائِعُه برُخصٍ، فسَألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
((لا تَشتَرِه وإن بدِرهَمٍ؛ فإنَّ العائِدَ في هبَتِه كالكَلبِ يَعودُ في قَيئِه )) [6210] أخرجه البخاري (3003) واللفظ له، ومسلم (1620). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على كَراهيةِ أن يَنتَفِعَ الإنسانُ بشَيءٍ قد أخرَجَه للهِ تَعالى؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد قَطَعَ طَمَعَ نَفسِه عَنِ العَودِ في شَيءٍ أخرَجَه للهِ بكُلِّ طَريقٍ؛ فإنَّ النَّفسَ مَتى طَمِعَت في عَودِه بوجهٍ ما فآمالُها بَعدُ مُتَعَلِّقةٌ به، فلَم تَطِبْ به نَفسًا للهِ وهيَ مُتَعَلِّقةٌ به، فقَطَعَ عليها طَمَعَها في العَودِ ولَو بالثَّمَنِ، ليَتَمَحَّصَ الإخراجُ للهِ، وهذا شَأنُ النُّفوسِ الشَّريفةِ ذَواتِ الأقدارِ والهمَمِ، أنَّها إذا أعطَت عَطاءً لم تَسمَحْ بالعَودِ فيه بوجهٍ لا بشِراءٍ ولا غَيرِه، وتَعُدُّ ذلك دَناءةً؛ ولِهذا مَثَّلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العائدَ في هبَتِه بالكَلبِ يَعودُ في قَيئِه؛ لخِسَّتِه ودَناءةِ نَفسِه
[6211] يُنظر: ((شرح المختصر الكبير)) للأبهري (4/353)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/262). .
- وعَن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنّه سُئِلَ عَن رُكوبِ الهَديِ، فقال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((اركَبْها بالمَعروفِ إذا أُلجِئتَ إليها حتَّى تَجِدَ ظَهرًا )) [6212] أخرجه مسلم (1324). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ الهَديَ لا يُركَبُ إلَّا للضَّرورةِ، فدَلَّ على أنَّ الشَّيءَ الذي أُخرِجَ للهِ تَعالى لا يُرجَعُ فيه ولا يُنتَفَعُ به، ولَو استُبيحَتِ المَنافِعُ مِن غَيرِ ضَرورةٍ لَجازَ استِئجارُها، ولا خِلافَ في مَنعِ ذلك
[6213] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (11/546)، ((المعلم)) للمازري (2/105). .
- وعَن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَه أن يَقومَ على بُدنِه، وأن يُقَسِّمَ بُدنَه كُلَّها، لُحومَها وجُلودَها وجِلالَها، ولا يُعطيَ في جِزارَتِها شَيئًا )) [6214] أخرجه البخاري (1717) واللفظ له، ومسلم (1317). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّه لا يَجوزُ بَيعُ ما قد أُخرِجَ للهِ تَعالى ولا الرُّجوعُ فيه، فلا يَجوزُ بَيعُ شَيءٍ مِنَ الأُضحيَّةِ، ولَولا إباحةُ اللهِ الأكلَ مِنها ما جازَ أن يُستَباحَ، فوجَبَ ألَّا يَتَعَدَّى الأكلُ إلى البَيعِ إلَّا بدَليلٍ لا مُعارِضَ له؛ فدَلَّ على أنَّ الأصلَ في كُلِّ ما أُخرِجَ للهِ تَعالى أنَّه لا يَجوزُ الرُّجوعُ في شَيءٍ منه
[6215] يُنظر: ((شرح المختصر الكبير)) للأبهري (2/109)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/391)، ((منحة العلام)) لعبدالله الفوزان (9/299). .
3- مِنَ الإجماعِ:ومَمَّن حَكاه: ابنُ عَبدِ البَرِّ
[6216] قال: (ما أُريدَ به اللهُ فلا رُجوعَ فيه، وهذا مِمَّا أجمَعَ المُسلِمونَ عليهـ). ((التمهيد)) (1/411). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- الأموالُ المُستَحَقَّةُ في القُرَبِ لا يَجوزُ للمُتَقَرِّبِ بَيعُها، كالزَّكَواتِ والكَفَّاراتِ
[6217] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/119)، ((بحر المذهب)) للروياني (4/215). .
2- لا يَجوزُ للواقِفِ أن يَنتَفِعَ بوقفِه؛ لأنَّه أخرَجَه للهِ وقَطَعَه عَن مِلكِه، فانتِفاعُه بشَيءٍ مِنه رُجوعٌ في صَدَقَتِه، وإنَّما يَجوزُ له الانتِفاعُ إن شَرَطَ ذلك في الوقفِ، أو أن يَفتَقِرَ المُحبسُ، أو ورَثَتُه، فيَجوزُ لَهمُ الأكلُ منه
[6218] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (6/340)، ((التوضيح)) لابن الملقن (17/230). .
3- الوقفُ عَقدٌ لازِمٌ لا يَجوزُ فسخُه، يَعني يَكونُ ثابِتًا لا يُمكِنُ تَغييرُه، ولا يَجوزُ فسخُه؛ لأنَّه مِمَّا أُخرِجَ للهِ تَعالى، فلا يَجوزُ أن يَرجِعَ فيه كالصَّدَقةِ، فمِن حينِ أن يَقولَ الرَّجُلُ: وقَفتُ بَيتي، أو وقَفتُ سَيَّارَتي، أو وقَفتُ كِتابي، فإنَّه يَلزَمُه ذلك
[6219] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (11/57). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استثناءاتٌ:يُستثنى من القاعِدةِ بعضُ الصُّوَرِ، منها:
1- يَجوزُ الأكلُ مِن لَحمِ الأُضحيَّةِ، ولَولا إباحةُ اللهِ تَعالى الأكلَ مِنها ما جازَ أن يُستَباحَ، فوجَبَ ألَّا يَتَعَدَّى الأكلُ إلى البَيعِ
[6220] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/391). .
2- يَجوزُ أن تُركَبَ بُدنُ الهَديِ للحاجةِ إلى ذلك، الرُّكوبَ الخَفيفَ؛ لأنَّ ما أُخرِجَ للهِ فغَيرُ جائِزٍ الرُّجوعُ في شَيءٍ مِنه والانتِفاعُ به إلَّا عِندَ الضَّرورةِ
[6221] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (2/309). .