موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الواجِبُ إذا قُدِّرَ بشَيءٍ، فعُدِلَ إلى ما فوقَه: هَل يُجزِئُه؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الواجِبُ إذا قُدِّرَ بشَيءٍ، فعُدِلَ إلى ما فوقَه: هَل يُجزِئُه؟" [6191] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/318). ، وصيغةِ: "إذا أدَّى أفضَلَ مِمَّا وجَبَ عليه أجزَأه" [6192] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/248). ، وصيغةِ: "إبدالُ الواجِبِ بخَيرٍ مِنه جائِزٌ -بَل يُستَحَبُّ- فيما وجَبَ بإيجابِ الشَّرعِ وبِإيجابِ العَبدِ" [6193] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/249). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الواجِبَ إذا قُدِّرَ بشَيءٍ، فعَدَلَ المُكَلَّفُ إلى فِعلِ ما فوقَه وما هو أفضَلُ مِنه: هَل يُجزِئُه؟ فيه تَفصيلٌ، فقيلَ الضَّابِطُ في ذلك: أنَّ ما كان يَجمَعُهما نَوعٌ واحِدٌ أجزَأ، وما لا فلا. كما إذا وجَبَ في زَكاةِ الفِطرِ قوتُ نَفسِه أوِ البَلَدِ، فعَدَلَ إلى أعلى مِنه: أجزَأ؛ لأنَّه زادَ خَيرًا. وأمَّا إذا نَذَرَ أن يُهديَ شاةً بعَينِها فذَبَحَ عِوضَها بَقَرةً أو بَدَنةً: لَم تَجُزْ؛ لأنَّها تَعَيَّنَت.
ومَن وجَبَت عليه عِبادةٌ، فأتى بما لَوِ اقتَصَرَ على ما دونَه لَأجزَأه، هَل يوصَفُ الكُلُّ بالوُجوبِ، أو قَدر الإجزاءِ مِنه؟ قال بَعضُ العُلَماءِ: إن كانتِ الزِّيادةُ مُتَمَيِّزةً مُنفَصِلةً فلا إشكالَ في أنَّها نَفلٌ بانفِرادِها، كَإخراجِ صاعَينِ مُنفَرِدَينِ في الفِطرةِ ونَحوِه. وأمَّا إن لَم تَكُنْ مُتَمَيِّزةً ففيه وجهانِ.
كما لَو دَفَعَ بَعيرًا عَن خَمسٍ مِنَ الإبِلِ، مَعَ أنَّ الواجِبَ فيها شاةٌ، فهذا يُجزِئُه. ولَكِنِ اختُلِفَ: هَل يَقَعُ الزَّائِدُ كُلُّه فرضًا أم يَقَعُ الزَّائِدُ نَفلًا؟ على وجهَينِ: فقيلَ: إنَّ ما لا يُمكِنُ فيه التَّمييزُ، كَبَعيرِ الزَّكاةِ، فالكُلُّ يَقَعُ فرضًا. وما أمكَنَ التَّمييزُ فيه، كَمَسحِ الرَّأسِ ونَحوِه، يَقَعُ البَعضُ فرضًا، ويَكونُ الزَّائِدُ على القَدرِ الواجِبِ نَفلًا [6194] يُنظر: ((المهمات)) للإسنوي (2/259)، ((المنثور)) للزركشي (3/318)، ((القواعد)) لابن رجب (1/ 65)، ((فتاوى الرملي)) (1/42)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (42/339). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
فعَن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصَدِّقًا فمَرَرتُ برَجُلٍ فلَمَّا جَمَعَ لي مالَه لَم أجِدْ عليه فيه إلَّا ابنةَ مَخاضٍ، فقُلتُ له: أدِّ ابنةَ مَخاضٍ فإنَّها صَدَقَتُكَ، فقال: ذاكَ ما لا لَبَنَ فيه ولا ظَهرَ، ولَكِن هذه ناقةٌ فتيَّةٌ عَظيمةٌ سَمينةٌ فخُذْها، فقُلتُ له: ما أنا بآخِذٍ ما لَم أومَرْ به، وهذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنكَ قَريبٌ، فإن أحبَبتَ أن تَأتيَه فتَعرِضَ عليه ما عَرَضتَ عليَّ فافعَلْ، فإن قَبِلَه مِنكَ قَبِلتُه، وإن رَدَّه عليكَ رَدَدتُه، قال: فإنِّي فاعِلٌ، فخَرَجَ مَعي وخَرَجَ بالنَّاقةِ التي عَرَضَ عليَّ حَتَّى قدِمنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له: يا نَبيَّ اللهِ، أتاني رَسولُكَ ليَأخُذَ مِنِّي صَدَقةَ مالي، وأيمُ اللهِ ما قامَ في مالي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا رَسولُه قَطُّ قَبلَه، فجَمَعتُ له مالي فزَعَمَ أنَّ ما عليَّ فيه ابنةُ مَخاضٍ، وذلك ما لا لَبَنَ فيه ولا ظَهرَ، وقد عَرَضتُ عليه ناقةً فتيَّةً عَظيمةً ليَأخُذَها فأبى عليَّ، وها هيَ ذه قد جِئتُكَ بها يا رَسولَ اللهِ، خُذْها، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ذاكَ الذي عليكَ، فإن تَطَوَّعتَ بخَيرٍ آجَرَكَ اللهُ فيه وقَبِلناه مِنك، قال: فها هيَ ذه يا رَسولَ اللهِ قد جِئتُكَ بها فخُذها، قال: فأمَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَبضِها، ودَعا له في مالِه بالبَرَكةِ )) [6195] أخرجه أبو داود (1583) واللفظ له، وأحمد (21279). صحَّحه ابن خزيمة في ((صحيحهـ)) (4/40)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1470)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (10/40)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1583). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يُبَيِّنُ الحَديثُ أنَّ المُكَلَّفَ إذا أدَّى أفضَلَ مِمَّا وجَبَ عليه أجزَأه؛ فإنَّ ما في هذا الحَديثِ مِن إجزاءِ سِنٍّ أعلى مِنَ الواجِبِ مَذهَبُ عامَّةِ أهلِ العِلمِ؛ فقد ثَبَتَ أنَّ إبدالَ الواجِبِ بخَيرٍ مِنه جائِزٌ بَل يُستَحَبُّ فيما وجَبَ بإيجابِ الشَّرعِ وبِإيجابِ العَبدِ [6196] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/248). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- قيامُ المَسجِدِ الحَرامِ مَقامَ مَسجِدِ المَدينةِ والأقصى عِندَ نَذرِهما للِاعتِكافِ؛ فإنَّه يُجزِئُ قَطعًا؛ لأنَّه أفضَلُ مِنهما، ولا عَكس؛ لأنَّهما مَفضولانِ بالنِّسبةِ إليه، وقيامُ مَسجِدِ المَدينةِ مَقامَ الأقصى، ولا عَكسُ [6197] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/318). .
2- يَجوزُ الإعطاءُ فَوقَ الواجِبِ في الزَّكاةِ، فإن وجَبَ عليه تَبيعٌ فأعطى مُسِنَّةً جازَ؛ لأنَّها أعلى مِمَّا وجَبَ عليه، وإن وجَبَ عليه مُسِنَّةٌ فأعطى تَبيعَينِ جازَ؛ لأنَّهما يُجزِئانِ عَنِ السِّتِّينَ، فلَأن يُجزيا عَمَّا دونَها أولى [6198] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (3/190). .
3- إذا وجَبَ على المُكَلَّفِ شاةٌ في جَزاءِ الصَّيدِ، فأخرَجَ بَدَنةً أو بَقَرةً لَم يجزِه قَطعًا؛ لأنَّ القَصدَ فيه المُماثَلةُ في الصُّورةِ [6199] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/319). .
4- إذا نَذَرَ المُكَلَّفُ أن يَقِفَ شَيئًا فوقَفَ خَيرًا مِنه كان أفضَلَ، فلَو نَذَرَ أن يَبنيَ للهِ مَسجِدًا وصَفَه، أو يَقِفَ وقفًا وصَفَه، فبَنى مَسجِدًا خَيرًا مِنه ووقَفَ وقفًا خَيرًا مِنه كان أفضَلَ [6200] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/249). .

انظر أيضا: