المَطلَبُ السَّابِعَ عَشَرَ: كُلُّ ما شُرِعَ عِبادةً لا يَجوزُ إيقاعُه عادةً
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ ما شُرِعَ عِبادةً لا يَجوزُ إيقاعُه عادةً"
[6260] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (1/324). ، وصيغةِ: "كُلُّ ما يُشرَعُ قُربةً للهِ تَعالى لا يَجوزُ أن يَقَعَ إلَّا قُربةً له على وجهِ التَّعظيمِ والإجلالِ لا على وجه التَّلاعُبِ"
[6261] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/302). ، وصيغةِ: "ما وُضِعَ للتَّقَرُّبِ إلى اللهِ تَعالى فلا يَقَعُ إلَّا كذلك على وجهِ التَّعظيمِ والإجلالِ لا التَّلاعُبِ والامتِهانِ"
[6262] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (1/324). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ كُلَّ ما شُرِعَ عِبادةً للهِ تَعالى لا يَجوزُ أن يَقَعَ إلَّا قُربةً له، ولا يَجوزُ إيقاعُه عادةً، فما وُضِعَ للتَّقَرُّبِ إلى اللهِ تَعالى لا يَقَعُ إلَّا على جِهةِ التَّقَرُّبِ على وجهِ التَّعظيمِ والإجلالِ
[6263] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/301)، ((القواعد)) للمقري (1/324)، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (2/398). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ:
قال اللهُ تعالى:
وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة: 231] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ تَعالى نَهى عَنِ اتِّخاذِ شَرعِه هُزُوًا ولَعِبًا، فإنَّ مِن آياتِ اللهِ شَرائِعَ دينِه الذي شَرَعَه لعِبادِه، وكُلُّ ما دَلَّ على أحكامِ اللهِ فهو مِن آياتِه، وكُلُّ ما كان مِن آياتِه فاتِّخاذُها هُزُوًا: فِعلُها مَعَ عَدَمِ اعتِقادِ حَقائِقِها التي شُرِعَت هذه الأسبابُ لَها، فكَما أنَّ استِهزاءَ المُنافِقينَ أنَّهم
إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة: 14] فيَأتونَ بكَلِمةِ الإيمانِ غَيرَ مُعتَقِدينَ حَقيقَتَها بَل مُظهرينَ خِلافَ ما يُبطِنونَ، فكُلُّ مَنِ اتَّخَذَ آياتِ اللهِ هُزُوُا كان كالمُنافِقِ في ذلك
[6264] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/260)، ((شفاء العليل)) للبعلي (ص: 146). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- الدُّعاءُ عِبادةٌ، فلا يَجوزُ أن يُطلَقَ على سَبيلِ العادةِ، بأن يَكونَ الدُّعاءُ على سَبيلِ التَّلاعُبِ والاستِراحةِ في الكَلامِ، والتَّفاؤُلِ، وتَحسينِ اللَّفظِ مِنَ الذي يُلابِسُه كما يَجري ذلك على ألسِنةِ السَّماسِرةِ في الأسواقِ عِندَ افتِتاحِ النِّداءِ على السِّلَعِ. وقيلَ: يُكرَهُ
[6265] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/301)، ((القواعد)) للمقري (1/324)، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (2/398). .
2- التَّيَمُّمُ عِبادةٌ، بَل هو أظهَرُ في إرادةِ القُربةِ، فلا يَكونُ عادةً
[6266] يُنظر: ((مطالع الدقائق)) للإسنوي (1/240)، ((الإعلام)) لابن الملقن (1/185). .
3- الصَّومُ عِبادةٌ مَحضةٌ، وهو يَقَعُ عِبادةً وعادةً، والنِّيَّةُ للتَّمييزِ بَينَ العِباداتِ والعاداتِ، فالامتِناعُ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ مِن طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ، إن كان بنيَّةِ الصِّيامِ فهو عِبادةٌ، وإلَّا فلا يَكونُ عِبادةً يُثابُ عليها صاحِبُها
[6267] يُنظر: ((التنبيهـ)) لابن بشير (2/747)، ((الرسالة الندية)) لمصيلحي (ص: 48). .
4- إظهارُ كَلِمةِ التَّوحيدِ إنَّما يَكونُ للإقرارِ للواحِدِ الحَقِّ بالوحدانيَّةِ، فلا يَجوزُ أن تَكونَ قَصدًا لإحرازِ الدَّمِ والمالِ
[6268] يُنظر: ((مقاصد المكلفين)) لعمر الأشقر (ص: 414). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تنبيهٌ:لا تَشمَلُ القاعِدةُ ما كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُه مِن بَعضِ الأدعيةِ التي تَجري هذا المَجرى، ومِن ذلك قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأُمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((تَرِبَت يَداكِ، فبِمَ يُشبِهها ولَدُها؟ )) [6269] أخرجه البخاري (130)، ومسلم (313) واللَّفظُ له مِن حَديثِ أُمِّ سَلَمةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا تَعَجَّبَت مِمَّا لَم تَعلَمْ مِن كَونِ المَرأةِ تَحتَلِمُ وتُنزِلُ المَنيَّ، ومَعلومٌ أنَّه عليه السَّلامُ ما أرادَ إيذاءَها بالدُّعاءِ، وكَذلك قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَت يَداكِ )) [6270] أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466) مِن حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فلَيسَ مِنَ الإرشادِ ما يَقتَضي قَصدَ الإضرارِ بالدُّعاءِ، فقدِ استُعمِلَ الدُّعاءُ لا على وجهِ الطَّلَبِ والتَّقَرُّبِ. ولَفظُ الدُّعاءِ إذا غَلَبَ استِعمالُه في العُرفِ في غَيرِ الدُّعاءِ فلا يَنصَرِفُ بَعدَ ذلك إلى الدُّعاءِ إلَّا بالقَصدِ والنِّيَّةِ، فإذا استَعمَلَه مُستَعمِلٌ في غَيرِ الدُّعاءِ فقدِ استَعمَلَه فيما هو مَوضوعٌ له عُرفًا، ولا حَرَجَ في ذلك. وإنَّما الكَلامُ في الألفاظِ التي تَنصَرِفُ بصَراحَتِها للدُّعاءِ وتُستَعمَلُ في غَيرِه
[6271] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/302). وقال النَّوويُّ: (وأمَّا قَولُها: "تَرِبَت يَمينُك" ففيه خِلافٌ كَثيرٌ مُنتَشِرٌ جِدًّا للسَّلَفِ والخَلَفِ مِنَ الطَّوائِفِ كُلِّها، والأصَحُّ الأقوى الذي عَلَيه المُحَقِّقونَ في مَعناها أنَّها كَلِمةٌ أصلُها افتَقَرتَ، ولَكِنَّ العَرَبَ اعتادَت استِعمالَه غَيرَ قاصِدةٍ حَقيقةَ مَعناها الأصليِّ، فيَذكُرونَ: تَرِبَت يَداكَ، وقاتَلَه اللهُ ما أشجَعَه، ولا أُمَّ له، ولا أبَ لَكَ، وثَكِلَته أُمُّه، وويلُ أُمِّه، وما أشبَهَ هذا مِن ألفاظِهم، يَقولونَها عِندَ إنكارِ الشَّيءِ أو الزَّجرِ عَنه، أو الذَّمِّ عَلَيه أو استِعظامِه أو الحَثِّ عَلَيه أو الإعجابِ به. واللهُ أعلَمُ). ((شرح مسلم)) (3/221). .