موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ السَّادِسُ: حُقوقُ العِبادِ لا تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: حُقوقُ العِبادِ لا تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ [3569] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/71). ، وصيغةِ: حُقوقُ العِبادِ مَبنيَّةٌ على المُشاحَّةِ لا تَسقُطُ بالشُّبهةِ [3570] يُنظر: ((قرة عيون الأخيار)) لنجل ابن عابدين (8/53). ، وصيغةِ: الشُّبهةُ تُؤَثِّرُ في الحُدودِ الخالِصةِ، ولا تُؤَثِّرُ في حُقوقِ العِبادِ [3571] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/7). ، وصيغةِ: حَقُّ اللهِ تَعالى قد يَسقُطُ بالشُّبهةِ، وحَقُّ الآدَميِّ لا يَسقُطُ بالشُّبهةِ وهو مَبنيٌّ على المُضايَقةِ [3572] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/368). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ حُقوقَ العِبادِ مِنَ الأموالِ وغَيرِها مَبنيَّةٌ على المُشاحَّةِ، ولا تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ، ويَدخُلُ في ذلك كُلُّ حَقٍّ لا يَسقُطُ بالشُّبهةِ، كالدَّينِ والنِّكاحِ والطَّلاقِ والشُّفعةِ والوكالةِ والوصيَّةِ والوفاةِ والوِراثةِ والنَّسَبِ مِنَ الحَيِّ والمَيِّتِ، والغَصبِ، والأمانةِ المَجحودةِ، والمُضارَبةِ المَجحودةِ، ونَحوِ ذلك مِن حُقوقِ العِبادِ [3573] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/368)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/71)، ((الكافي)) للسغناقي (4/1978)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/183)، ((قرة عيون الأخيار)) لنجل ابن عابدين (8/53). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ حُقوقَ العِبادِ إذا تَقَرَّرَت لأصحابِها فلا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها، وليستِ الشُّبُهاتُ مِمَّا يَصِحُّ به إسقاطُ حُقوقِ العِبادِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والقَواعِدِ:
1- من القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عليْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عليْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تَعالى أجازَ شَهادةَ النِّساءِ مَعَ الرَّجُلِ في الدُّيونِ، فوجَبَ قَبولُها في كُلِّ حَقٍّ لا تُسقِطُه الشُّبهةُ؛ إذ كان الدَّينُ حَقًّا لا يَسقُطُ بالشُّبهةِ. ومِمَّا يَدُلُّ على جَوازِها في غَيرِ الأموالِ مِنَ الآيةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قد أجازَها في الأجَلِ بقَولِه: إِذَا تَدايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ قال: فإن لَم يَكونا رَجُلَينِ فرَجُلٌ وامرَأتانِ فأجازَ شَهادَتَها مَعَ الرَّجُلِ على الأجَلِ وليس بمالٍ، كما أجازَها في المالِ. فإذا جازَ قَبولُ شَهادةِ النِّساءِ في هذه الحُقوقِ دَلَّ هذا على أنَّها لا تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ؛ ولِهذا لا تُقبَلُ شَهادةُ النِّساءِ فيما يَسقُطُ بالشُّبُهاتِ، كالحُدودِ والقِصاصِ [3574] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/609-610)، ((العناية)) للبابرتي (7/291). .
2- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لَها بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- الثَّابِتُ بالغَصبِ ضَمانٌ لا يَسقُطُ بالشُّبُهاتِ؛ فالشُّبهةُ لا تَمنَعُ وُجوبَ ضَمانِ المالِ؛ لأنَّه حَقُّ العَبدِ، وحُقوقُ العِبادِ لا تَسقُطُ بالشُّبُهاتِ [3575] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/71)، ((الذخيرة)) للقرافي (12/152)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/233). .
2- يَجوزُ التَّوكيلُ بإثباتِ التَّعازيرِ واستيفائِها، ولِلوكيلِ أن يَستَوفيَ، سَواءٌ أكان الموكِّلُ غائِبًا أم حاضِرًا؛ لأنَّ التَّعزيرَ حَقُّ الشَّخصِ، ولا يَسقُطُ بالشُّبُهاتِ، بخِلافِ الحُدودِ [3576] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (5/4069). .

انظر أيضا: