موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الخامِسُ: حُقوقُ العِبادِ إنَّما تَسقُطُ بإذنِ العِبادِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: حُقوقُ العِبادِ إنَّما تَسقُطُ بإذنِ العِبادِ [3558] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/174). ، وصيغةِ: حَقُّ الآدَميِّ يُستَحَقُّ بالطَّلَبِ ويَسقُطُ بالعَفوِ [3559] يُنظر: ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 270). ، وصيغةِ: حَقُّ الآدَميِّ لا يَجِبُ إلَّا بالمُطالَبةِ ويَسقُطُ بالعَفوِ [3560] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/10). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ حُقوقَ العِبادِ الثَّابِتةَ لَهم يَجوزُ أن تَسقُطَ بإذنِ العِبادِ، فلِلعَبدِ الحَقُّ في إسقاطِ حَقِّه بالعَفوِ والإبراءِ، وهَكَذا جَميعُ حُقوقِ العِبادِ تَسقُطُ إذا وافَقوا على إسقاطِها [3561] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/334)، ((الفروق)) للقرافي (3/174)، ((لسان الحكام)) لابن الشحنة (ص: 258)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 273)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/122). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ حُقوقَ العِبادِ المُتَقَرِّرةَ لَهم تَسقُطُ بإذنِهم؛ لأنَّ الحُقوقَ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها فلا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها، ومِمَّا يَصِحُّ به إسقاطُها الإبراءُ والعَفوُ مِن أصحابِ الحُقوقِ.
وهذه القاعِدةُ تَفتَرِقُ عن قاعِدةِ: (الحَقُّ بَعدَ ما يَثبُتُ لا يَسقُطُ إلَّا بإسقاطِ صاحِبِ الحَقِّ) في أنَّ الإسقاطَ فِعلٌ مِن صاحِبِ الحَقِّ ابتِداءً بخِلافِ الإذنِ، فإنَّما يَكونُ بطَلَبِ تَنازُلِ صاحِبِ الحَقِّ عن حَقِّه فيَأذَنُ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه؛ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَجوزُ لامرَأةٍ عَطيَّةٌ إلَّا بإذنِ زَوجِها )) [3562] أخرجه أبو داود (3547)، والنسائي (2540)، وأحمد (6681). قال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3547): حسن صحيح، وحسنه الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (4/124)، وصحَّح إسنادَه ابنُ الملقن في ((تحفة المحتاج)) (2/261)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (11/17)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3547). وذهب إلى تصحيحِه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (6/60). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: ((إلَّا بإذنِ زَوجِها)) أي: برِضاه وموافَقَتِه، فيَدُلُّ على أنَّه لا يَصِحُّ تَصَرُّفُ المَرأةِ في المالِ إلَّا بإذنِ الزَّوجِ، وإذنُ الزَّوجِ قد يَكونُ بصَريحِ القَولِ، وقد يَكونُ بالإقرارِ، وهَكَذا جَميعُ حُقوقِ العِبادِ تَسقُطُ إذا وافَقوا على إسقاطِها [3563] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/121). .
- وعن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَسألُ في مَرَضِه الذي ماتَ فيه: ((أينَ أنا غَدًا؟ أينَ أنا غَدًا؟ )) يُريدُ يَومَ عائِشةَ، فأذِنَ له أزواجُه يَكونُ حَيثُ شاءَ، فكان في بَيتِ عائِشةَ حَتَّى ماتَ عِندَها [3564] أخرجه البخاري (4450) واللفظ له، ومسلم (2443). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ القَسْمَ لَهنَّ يَسقُطُ بإذنِهنَّ في ذلك، فقد وهَبنَ أيَّامَهنَّ تلك لعائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها [3565] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/317)، ((الأبواب والتراجم لصحيح البخاري)) للكاندهلوي (5/566). ، فدَلَّ هذا على أنَّ حُقوقَ العِبادِ إنَّما تَسقُطُ بإذنِ العِبادِ.
2- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لَها بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- لا يَجوزُ أكلُ مالِ الغَيرِ إلَّا بإذنِه [3566] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/172). .
2- ضَمانُ الغَصبِ يَسقُطُ برَدِّ العَينِ إلى يَدِ مالِكِها، فجازَ أن يَسقُطَ بإذنِه في إمساكِه [3567] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (6/2765). .
3- كُلُّ شَيءٍ يوجِبُ التَّعزيرَ كالشَّتمِ ونَحوِه فهو مِن جُملةِ حُقوقِ العِبادِ، يَصِحُّ العَفوُ عنه والإبراءُ والصُّلحُ؛ لأنَّ التَّعزيرَ حَقُّ العَبدِ يَسقُطُ بعَفوِه، فشابَهَ سائِرَ حُقوقِهم [3568] يُنظر: ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (ص: 185)، ((لسان الحكام)) لابن الشحنة (ص: 258). .

انظر أيضا: