موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: حَقُّ الشَّرعِ لا يَسقُطُ بإسقاطِ العَبدِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: حَقُّ الشَّرعِ لا يَسقُطُ بإسقاطِ العَبدِ [3543] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/555)، ((فتوح الغيب)) للطيبي (15/470). ، وصيغةِ: رِضا العَبدِ بإسقاطِ حَقِّه لا يَتَعَدَّى إلى حَقِّ الشَّرعِ بالإسقاطِ [3544] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/367). ، وصيغةِ: ما هو حَقُّ اللهِ تَعالى فإنَّه لا يَسقُطُ بإذنِ أحَدٍ ولا بإسقاطِه [3545] يُنظر: ((تحقيق المراد)) للعلائي (ص: 209)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/389). ، وصيغةِ: حَقُّ اللهِ لا يَسقُطُ بإسقاطِ العَبدِ [3546] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/174)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/111). ، وصيغةِ: حَقُّ الشَّرعِ لا يَسقُطُ بعَفوِ الوليِّ [3547] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (3/289). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما ثَبَتَ فيه حَقٌّ مُؤَكَّدٌ للهِ تَعالى؛ فإنَّه بَعدَ ثُبوتِه لا يَسقُطُ بإسقاطِ العَبدِ، ولا يَسقُطُ بالتَّراضي مِنَ الآدَميِّينَ، فلا يَجوزُ إسقاطُ حَقٍّ أوجَبَه اللهُ تَعالى بغَيرِ نَصِّ قُرآنٍ ولا سُنَّةٍ ثابِتةٍ، ورِضا العَبدِ بإسقاطِ حَقِّه لا يَتَعَدَّى إلى حَقِّ الشَّرعِ بالإسقاطِ [3548] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (4/66)، ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 212)، ((بدائع الصنائع) للكاساني (7/56)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/180)، ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (3/754)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/367). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ حَقَّ الشَّرعِ قد وجَبَ حَقًّا للهِ تَعالى فلا يَملِكُ العَبدُ إسقاطَه؛ لأنَّ الحُقوقَ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها فلا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها، والرِّضا مِنَ الآدَميِّينَ لا يَصِحُّ به إسقاطُ حَقِّ الشَّرعِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقواعِدِ:
1- من القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق: 1] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ المُعتَدَّةَ مِن طَلاقٍ أو فسخٍ تَعتَدُّ في مَسكَنِ الزَّوجيَّةِ الذي كانت تَسكُنُه قَبلَ مُفارَقةِ زَوجِها، وهذا حَقُّ الشَّرعِ وجَبَ عليها بطَريقِ التَّعَبُّدِ، فلا يَسقُطُ بالتَّراضي أو غَيرِه؛ لأنَّ الحَقَّ الذي للهِ تَعالى لا يَسقُطُ بالتَّراضي، ولا يَسقُطُ إلَّا بعُذرٍ شَرعيٍّ، وكَذلك لا يَجوزُ لزَوجِها أن يُخرِجَها حَتَّى تَنقَضيَ العِدَّةُ [3549] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (5/106)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/155)، ((صحيح فقه السنة)) لكمال سالم (3/330). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عنِ الفُرَيعةِ بنتِ مالِكِ بنِ سِنانٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنها، أنَّها جاءَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَسألُه أن تَرجِعَ إلى أهلِها في بَني خُدرةَ، فإنَّ زَوجَها خَرَجَ في طَلَبِ أعبُدٍ له أَبَقُوا، حَتَّى إذا كانوا بطَرَفِ القَدومِ لَحِقَهم فقَتَلوه، فسَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أرجِعَ إلى أهلي، فإنِّي لَم يَترُكْني في مَسكَنٍ يَملِكُه ولا نَفَقةٍ، قالت: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَعَم، قالت: فخَرَجتُ حَتَّى إذا كُنتُ في الحُجرةِ أو في المَسجِدِ دَعاني أو أمَرَ بي فدُعيتُ له، فقال: كَيفَ قُلتِ؟ فرَدَدتُ عليه القِصَّةَ التي ذَكَرتُ مِن شَأنِ زَوجي، قالت: فقال: امكُثي في بَيتِكِ حَتَّى يَبلُغَ الكِتابُ أجَلَه، قالت: فاعتَدَدتُ فيه أربَعةَ أشهرٍ وعَشرًا [3550] أخرجه أبو داود (2300) واللفظ له، والترمذي (1204) باختلاف يسير، والنسائي (3532) مختصرًا. صحَّحه الذهلي كما في ((المحرر في الحديث)) لمحمد ابن عبد الهادي (385)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (4292)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/158)، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/393)، والنووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/354)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/247)، وابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (4/293)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَها أن تَمكُثَ في بَيتِها حَتَّى يَبلُغَ الكِتابُ أجَلَه؛ لأنَّ هذا الحَقَّ للهِ تَعالى لا يَسقُطُ بالتَّراضي [3551] يُنظر: ((سنن الترمذي)) (3/500)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (15/72)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (5/106). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الصُّلحُ جائِزٌ بَينَ المُسلِمينَ إلَّا صُلحًا أحَلَّ حَرامًا أو حَرَّمَ حَلالًا )) [3552] أخرجه أبو داود (3594) مطولًا واللفظ له، وأحمد (8784) مختصرًا. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5091)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3594)، وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/211): ينبغي أن يقال فيه: حَسَنٌ، وصحَّح إسنادَه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (718)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/319)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/376): إسنادُه حَسَنٌ أو صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ الصُّلحَ الذي يُحِلُّ الحَرامَ أو يُحَرِّمُ الحَلالَ لا يَجوزُ، فلا يَصِحُّ الصُّلحُ على إسقاطِ الحَدِّ مَثَلًا؛ لأنَّه يُعَدُّ مِنَ الصُّلحِ الذي أحَلَّ الحَرامَ [3553] يُنظر: ((تيسير مسائل الفقهـ)) لعبد الكريم النملة (3/276)، ((موسوعة الإجماع)) لمجموعة من المؤلفين (2/783). .
3- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لَها بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- سائِرُ الحُدودِ حُقوقٌ للهِ تَعالى؛ لأنَّ المَقصَدَ مِنها إخلاءُ العالَمِ عنِ الفَسادِ؛ ولِهذا لا تَسقُطُ بإسقاطِ العَبدِ، فيَستَوفيه مَن هو نائِبٌ عنِ الشَّرعِ، وهو الإمامُ أو نائِبُه، كالسَّرِقةِ؛ فإنَّها لا تَسقُطُ بإسقاطِ العَبدِ، وإن كان فيها حَقٌّ للعَبدِ؛ لِما فيها مِن حَقِّ الشَّرعِ [3554] يُنظر: ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 212)، ((الهداية)) للمرغيناني (2/342)، قال الكاسانيُّ: (سائِرُ الحُدودِ إنَّما كانت حُقوقَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى على الخُلوصِ؛ لأنَّها وجَبَت لمَصالِحِ العامَّةِ وهيَ دَفعُ فسادٍ يَرجِعُ إلَيهم ويَقَعُ حُصولُ الصِّيانةِ لَهم، فحَدُّ الزِّنا وجَبَ لصيانةِ الأبضاعِ عَنِ التَّعَرُّضِ، وحَدُّ السَّرِقةِ وقَطعِ الطَّريقِ وجَبَ لصيانةِ الأموالِ والأنفُسِ عَنِ القاصِدينَ، وحَدُّ الشُّربِ وجَبَ لصيانةِ الأنفُسِ والأموالِ والأبضاعِ في الحَقيقةِ بواسِطةِ صيانةِ العُقولِ عَنِ الزَّوالِ والاستِتارِ بالسُّكرِ، وكُلُّ جِنايةٍ يَرجِعُ فسادُها إلى العامَّةِ، ومَنفَعةُ جَزائِها يَعودُ إلى العامَّةِ، كان الجَزاءُ الواجِبُ بها حَقَّ اللهِ عَزَّ شَأنُه على الخُلوصِ تَأكيدًا للنَّفعِ والدَّفعِ؛ كَي لا يَسقُطَ بإسقاطِ العَبدِ، وهو مَعنى نِسبةِ هذه الحُقوقِ إلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى. وهذا المَعنى مَوجودٌ في حَدِّ القَذفِ؛ لأنَّ مَصلَحةَ الصِّيانةِ ودَفعِ الفَسادِ يَحصُلُ للعامَّةِ بإقامةِ هذا الحَدِّ، فكان حَقَّ اللهِ عَزَّ شَأنُه على الخُلوصِ كَسائِرِ الحُدودِ، إلَّا أنَّ الشَّرعَ شَرَطَ فيه الدَّعوى مِنَ المَقذوفِ، وهذا لا يَنفي كَونَه حَقًّا للهِ تَعالى عَزَّ شَأنُه على الخُلوصِ، كَحَدِّ السَّرِقةِ أنَّه خالِصُ حَقِّ اللهِ عَزَّ شَأنُه وإن كانتِ الدَّعوى مِنَ المَسروقِ مِنه شَرطًا). ((بدائع الصنائع)) (7/56). .
2- يَبطُلُ نِكاحُ مَن يَحرُمُ نِكاحُه، إمَّا لعَينِه، كالمُحَرَّماتِ على التَّأبيدِ بسَبَبٍ أو نَسَبٍ، أو للجَمعِ، أو لفَواتِ شَرطٍ لا يَسقُطُ بالتَّراضي بإسقاطِه، كَنِكاحِ المُعتَدَّةِ والمُحرِمةِ، والنِّكاحِ بغَيرِ وليٍّ ونَحوِ ذلك [3555] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/181). .
3- يَجِبُ تَقديمُ الأُمِّ في الحَضانةِ -إذا طَلَبَت أجرَ مِثلِها- على المُتَبَرِّعةِ؛ لأنَّ الأُمَّ أحنى وأشفَقُ، ولَبَنُها أمرَأُ مِن لَبَنِ غَيرِها، فكانت أحَقَّ به مِن غَيرِها، ولِأنَّ في رَضاعِ غَيرِها تَفويتًا لحَقِّ الأُمِّ مِنَ الحَضانةِ، وإضرارًا بالولَدِ، ولا يَجوزُ تَفويتُ حَقِّ الحَضانةِ الواجِبِ، والإضرارُ بالولَدِ لغَرَضِ إسقاطِ حَقٍّ أوجَبَه اللهُ تَعالى على الأبِ [3556] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/432)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (24/427). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ وُجودُ العُذرِ لإسقاطِ حَقِّ اللهِ تَعالى، كما إذا كانتِ الزَّوجةُ في مَنزِلِ زَوجِها، فماتَ الزَّوجُ، فإن كان نَصيبُها مِنَ المَنزِلِ يَكفيها، فعليها أن تَسكُنَ في نَصيبِها في العِدَّةِ، ولا يَخلو بها مَن ليس بمَحرَمٍ لَها مِن ورَثةِ الزَّوجِ. وإن كان نَصيبُها لا يَكفيها: فإن رَضيَ ورَثةُ الزَّوجِ أن تَسكُنَ فيه سَكَنَت، وإن أبَوا كانت في سَعةٍ مِنَ التَّحَوُّلِ عنِ المَنزِلِ؛ للعُذرِ، وإن كانت في مَنزِلٍ مَخوفٍ على نَفسِها أو مالِها وليس مَعَها رَجُلٌ كانت في سَعةٍ مِنَ الارتِحالِ عنه؛ لأنَّ المُقامَ مَعَ الخَوفِ لا يُمكِنُ، وفي المُقامِ ضَرَرٌ عليها في نَفسِها ومالِها، وذلك عُذرٌ في إسقاطِ حَقِّ الشَّرعِ، كما لَو كان بَينَ المُسلِمِ وبَينَ الماءِ سَبُعٌ أو عدوٌّ [3557] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/34). .

انظر أيضا: