موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: ليس للإمامِ وِلايةُ إسقاطِ حُقوقِ العِبادِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: ليس للإمامِ وِلايةُ إسقاطِ حُقوقِ العِبادِ [3515] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/131). ، وصيغةِ: ليس للإمامِ وِلايةُ النَّظَرِ في المِلكِ الخاصِّ لإنسانٍ بتَقديمِ غَيرِه فيه عليه [3516] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/203). ، وصيغةِ: الحاكِمُ لا يَملِكُ إسقاطَ الحُقوقِ [3517] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/241)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (11/28). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
اشتَهَر استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ حُقوقَ العِبادِ إذا ثَبَتَت لَهم فإنَّه لا وِلايةَ للإمامِ في إسقاطِها، فلَيسَ للإمامِ أن يُسقِطَ حَقَّ أحَدٍ مِنَ الأموالِ، وليس له التَّصَرُّفُ في الأملاكِ الخاصَّةِ بالنَّاسِ بإسقاطِها عنهم إلَّا إذا كان في ذلك مَصلَحةٌ عامَّةٌ للرَّعيَّةِ، وبشَرطِ العِوضِ [3518] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) (ص: 796)، ((المبسوط)) (10/131) و(23/203) كلاهما للسرخسي، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/241)، ((البيان)) للعمراني (3/278). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها)؛ لأنَّ حُقوقَ العِبادِ قد تَقَرَّرَت لَهم، فلا تَسقُطُ إلَّا بإسقاطِهم، وليس للإمامِ وِلايةُ إسقاطِها؛ لأنَّ الحُقوقَ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها فلا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها، كالإبراءِ مِن أصحابِها.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعدةِ بالسُّنَّةِ والقواعدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أمِّ سلمةَ رَضيَ اللهُ عنها: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما أنا بشرٌ، وإنَّكم تختصمونَ إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكونَ ألحنَ بحُجَّتِه من بعضٍ، فأقضيَ نحو ما أسمعُ، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه شيئًا فلا يأخُذْه؛ فإنَّما أقطعُ له قِطعةً من النَّارِ )) [3519] أخرجه البخاري (7169) واللفظ له، ومسلم (1713). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يدلُّ الحديثُ على أنَّ الحاكمَ لا يملكُ أخذَ مالِ أحدٍ ودَفْعَه إلى الآخرِ [3520] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/241). .
2- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لها بالقاعدةِ الأمِّ: (الحقوقُ إذا تقرَّرت لأربابِها لا تسقطُ إلا بما يصحُّ به إسقاطُها).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- ليس للإمامِ ولايةُ النَّظرِ في الملكِ الخاصِّ لإنسانٍ بتقديمِ غيرِه فيه عليه، بل غيرُه في ذلك كسائرِ الرَّعايا، وإنَّما يثبتُ له حقُّ الأخذِ من المالكِ عندَ تحقُّقِ الضَّرورةِ وخوفِ الهلاكِ على المسلمينَ، وبشرطِ العِوضِ [3521] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/203). .
2- تسقطُ الدُّيونُ بالعفوِ من أصحابِها، وليس للقاضي سلطةُ إسقاطِها؛ لأنَّ الحاكمَ لا يملكُ إسقاطَ الحقوقِ [3522] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/241)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (11/28). .
3- ليس للإمامِ ولايةُ إبطالِ حقِّ الغانمينَ في الغزوِ وتخصيصِ أحدِهم بشيءٍ منه؛ لأنَّ الغنيمةَ مِلكٌ لجميعِهم، فينبغي أن تُقسمَ بينَهم كما أمرَ اللهُ تعالى [3523] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/27). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استثناءٌ:
يُستَثنى من هذه القاعدةِ أنَّ للإمامِ ولايةَ إسقاطِ حقِّ الأولياءِ في الزواجِ إذا اشتجروا؛ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّما امرأةٍ نَكَحَت بغيرِ إذنِ وليِّها فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فإن دخلَ بها فلها المهرُ بما استحلَّ من فرجِها، فإنِ اشتجروا فالسُّلطانُ وليُّ من لا وليَّ له )) [3524] أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102) واللفظ له، وابن ماجه (1879) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صحَّحه ابنُ معين والإمام أحمد كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) ليوسف بن ماجد (2/112)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (4074)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (2744)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/105)، وابن الجوزي كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد ابن عبد الهادي (4/286)، والقرطبي المفسر في ((التفسير)) (3/464)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/553)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/97)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (3/21)، وقال أبو موسى المديني في ((اللطائف)) (556): ثابتٌ مشهورٌ يحتَجُّ به. .
فجعلَ ثبوتَ ولايتِه في النكاحِ مشروطًا باشتجارِ الأولياءِ، ويفيدُ ذلك أنَّه لا ولايةَ للإمامِ والحاكمِ مع وجودِ الأولياءِ إذا لم يَشتَجِروا [3525] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 484). .

انظر أيضا: