موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثالثُ: الأعواضُ لا تسقطُ بالموتِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعدةُ بهذه الصيغةِ المذكورةِ: الأعواضُ لا تسقطُ بالموتِ [3526] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (11/5757)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (3/56). ، وصيغةِ: العِوضُ لا يسقطُ بالموتِ قبلَ القَبضِ [3527] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/538). ، وصيغةِ: العِوَضُ إذا ثبتَ لم يسقُطْ بموتِ من ثبتَ عليه [3528] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (12/6255). ، وصيغةِ: الواجباتُ في الأموالِ على جهةِ الضَّمانِ لا تسقطُ بالموتِ، ولا بمضيِّ المُدَدِ إذا كانت مُستقرَّةً [3529] يُنظر: ((عيون الأدلة)) لابن القصار (5/272). ، وصيغةِ: كلُّ سببٍ استُحِقَّ به تملُّكُ عينٍ بغيرِ اختيارِ مالكِها، لم يبطُلْ بموتِه قبلَ تملُّكِها [3530] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/258). ، وصيغةِ: كلُّ ما وجبَ بدلًا عن شيءٍ وقد وصلَ إليه المُعَوَّضُ لا يسقطُ عنه العِوضُ بالإسلامِ أو الموتِ [3531] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (6/52). ، وصيغةِ: الحقوقُ اللازمةُ لا تبطُلُ بالموتِ [3532] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/84). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعدةُ أنَّ ما كان عِوضًا كثَمَنِ المبيعِ، أو الواجباتِ الثابتةِ في الأموالِ على جهةِ الضَّمانِ: لا تسقطُ بالموتِ، إذا كانت مُستقرَّةً، كالدُّيونِ، والإجاراتِ، والدِّياتِ، وكذا الزَّكَواتُ والكفَّاراتُ، وإنَّما تصيرُ دَينًا على الميِّتِ تُؤخذُ من تركتِه [3533] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/102)، ((التجريد)) للقدوري (12/6255)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/367)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/352)، ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (10/446). .
وهذه القاعدةُ مُتفرِّعةٌ من قاعدةِ: (الحقوقُ إذا تقرَّرت لأربابِها لا تسقطُ إلَّا بما يصحُّ به إسقاطُها)، ووَجهُ تفرُّعِها عنها أنَّ الأعواضَ الثَّابتةَ لأصحابِها لا تسقطُ بموتِ أصحابِها؛ لأنَّ الحقوقَ إذا تقرَّرت لأربابِها لا تسقطُ إلَّا بما يصحُّ به إسقاطُها، وليس الموتُ ممَّا يصحُّ به إسقاطُ الحقوقِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعدةِ بالقرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقواعدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تعالى قضى أنَّ تقسيمَ الميراثِ يكونُ بعدَ قضاءِ الدَّينِ عن الميِّتِ، فلا ميراثَ إلَّا بعدَ قضاءِ الدَّينِ، فدلَّ على أنَّ الدُّيونَ لا تسقطُ بالموتِ، وإذا ثبتَ أنَّها لا تسقطُ بالموتِ قُدِّمَت على الوصايا والمواريثِ، وتُؤدَّى وإنِ استوعبت جميعَ التَّرِكةِ [3534] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/120)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/339)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/353) و(15/333). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن سعدِ بنِ الأطولِ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّ أخاه ماتَ وتركَ ثلاثَمائةِ درهمٍ، وتركَ عيالًا، فأردتُ أن أُنفقَها على عيالِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ أخاكَ مُحتبسٌ بدَينِه، فاقضِ عنه. فقال: يا رسولَ الله، قد أدَّيتُ عنه إلَّا دينارينِ، ادَّعَتهما امرأةٌ وليس لها بَيِّنةٌ، قال: فأعطِها؛ فإنَّها مُحِقَّةٌ )) [3535] أخرجه ابن ماجه (2433) واللفظ له، وأحمد (20076). صححه ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (4/101)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2433)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (20076)، وحسَّنه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/369). .
- وعن سَلَمةَ بنِ الأكوعِ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا جلوسًا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أُتيَ بجنازةٍ، فقالوا: صلِّ عليها، فقال: هل عليه دَينٌ؟ قالوا: لا. قال: فهل تَرَكَ شيئًا؟ قالوا: لا. قال: فصلَّى عليه، ثم أُتيَ بجنازةٍ أخرى، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، صلِّ عليها. قال: هل عليه دَينٌ؟ قيلَ: نعم. قال: فهل تركَ شيئًا؟ قالوا: ثلاثةُ دنانيرَ. فصلَّى عليها، ثمَّ أُتيَ بالثَّالثةِ، فقالوا: صلِّ عليها. قال: هل تركَ شيئًا؟ قالوا: لا. قال: هل عليه دَينٌ؟ قالوا: ثلاثةُ دنانيرَ. قال: صلُّوا على صاحبِكم. قال أبو قتادةَ: صلِّ عليه، وعليَّ دَينُه. فصلَّى عليه )) [3536] أخرجه البخاري (2289). .
فهذه الأحاديثُ تدلُّ بوضوحٍ على أنَّ الدَّينَ لا يسقطُ بموتِ صاحبِه [3537] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/1130). .
3- مِنَ الإجماعِ:
نُقِلَ الإجماعُ على أنَّ حقوقَ الآدميينَ لا تسقطُ بالموتِ، وممَّن حكاه: الماوَرديُّ [3538] قال: (ما كان من حقوقِ الآدميِّين كالدُّيونِ فلا خِلافَ أنَّها ‌لا ‌تسقُطُ ‌بالموتِ). ((الحاوي الكبير)) (15/333). ويُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (10/431). .
4- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لها بالقاعدةِ الأمِّ: (الحقوقُ إذا تقرَّرت لأربابِها لا تسقطُ إلَّا بما يصحُّ به إسقاطُها).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مَن مَلَكَ نِصابًا وحالَ عليه الحَولُ، ووجَبَت عليه الزَّكاةُ، صارَت دَينًا في ذِمَّتِه، فإذا ماتَ قَبلَ إخراجِها فلا تَسقُطُ بالمَوتِ، ووجَبَ إخراجُها مِن تَرِكَتِه، كَدَينِ العِبادِ [3539] يُنظر: ((رؤوس المسائل)) للزمخشري (ص: 205)، ((الملخص الفقهي)) لصالح الفوزان (1/324). .
2- إذا ماتَ الرَّجُلُ بَعدَ طُلوعِ الفَجرِ مِن شَوَّالٍ، وتَرَكَ عيالًا، فقد وجَبَت زَكاةُ الفِطرِ في مالِه عن نَفسِه وعن عيالِه، ولا تَسقُطُ عنه بمَوتِه [3540] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/367). .
3- الجُعلُ لا يَسقُطُ بالمَوتِ في الجَعالةِ؛ لأنَّه عِوضٌ عن عَمَلِه، فلا يَسقُطُ بالمَوتِ، كالأجرِ في الإجارةِ [3541] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/330)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (16/181)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (6/356). .
4- مَن وجَبَ عليه ضَمانُ الجِنايةِ لَم يَسقُطْ بمَوتِه، كالقاتِلِ لَزِمَه عِوضٌ عن جِنايَتِه، والأعواضُ لا تَسقُطُ بالمَوتِ [3542] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (11/5756). .

انظر أيضا: