موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ السَّابِعُ: إذا اجتَمَعَ الحَقَّانِ: حَقُّ الشَّرعِ وحَقُّ العَبدِ قُدِّمَ حَقُّ العَبدِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بصيَغٍ كَثيرةٍ، مِنها: "إذا اجتَمَعَ الحَقَّانِ قُدِّمَ حَقُّ العَبدِ لاحتياجِه" [3420] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 340). ، وصيغةِ: "إذا اجتَمَعَ الحَقَّانِ يُرَجَّحُ حَقُّ العَبدِ على حَقِّ الشَّرعِ" [3421] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/396). ، وصيغةِ: "إذا اجتَمَعَ حَقُّ الشَّرعِ وحَقُّ العَبدِ يُقدَّمُ حَقُّ العَبدِ لحاجَتِه وغِنى الشَّرعِ" [3422] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (6/466). ، وصيغةِ: "حَقُّ اللهِ تَعالى مَتى اجتَمَعَ مَعَ حَقِّ العَبدِ في مَحَلٍّ يُقدَّمُ حَقُّ العَبدِ" [3423] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/311). ، وصيغةِ: "إنَّما يُقدَّمُ حَقُّ العَبدِ فيما إذا اختَلَفَ الحَقَّانِ ولَم يُمكِنِ الجَمعُ بَينَهما" [3424] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/204). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
المُرادُ بحَقِّ اللهِ تَعالى: ما يَتَعَلَّقُ به النَّفعُ العامُّ مِن غَيرِ اختِصاصٍ بأحَدٍ؛ فنُسِبَ إلى اللهِ تَعالى لعِظَمِ خَطَرِه وشُمولِ نَفعِه، وإلَّا فبِاعتِبارِ التَّخليقِ الكُلُّ سَواءٌ في الإضافةِ إلى اللهِ تَعالى لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة: 284] ، وبِاعتِبارِ التَّضَرُّرِ أوِ الانتِفاعِ هو مُتَعالٍ عنِ الكُلِّ.
ومَعنى حَقِّ العَبدِ: ما يَتَعَلَّقُ به مَصلَحةٌ خاصَّةٌ، كَحُرمةِ مالِ الغَيرِ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ حَقَّ اللهِ تَعالى مَعَ حَقِّ العَبدِ إذا اجتَمَعا، ولَم يُمكِنِ الجَمعُ بَينَهما، فيُقدَّمُ حَقُّ العَبدِ لا تَهاوُنًا بحَقِّ اللهِ تَعالى، ولَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أغنى والعَفوُ مِنه أرجى؛ فاللهُ تَعالى هو الغَنيُّ، والخَلقُ همُ الفُقَراءُ؛ فيُقدَّمُ حَقُّ العَبدِ لفَقرِه، ويُؤَخَّرُ حَقُّ اللهِ تَعالى لغِناه.
وذَكَرَ بَعضُ العُلَماءِ أنَّ ما يَجتَمِعُ فيه حَقُّ اللهِ تَعالى وحَقُّ الآدَميِّ فهو ثَلاثةُ أقسامٍ:
1- ما قُطِعَ فيه بتَقديمِ حَقِّ اللهِ تَعالى، كالصَّلاةِ والزَّكاةِ، والصَّومِ والحَجِّ، فإنَّها تُقدَّمُ عِندَ القُدرةِ عليها على سائِرِ أنواعِ التَّرَفُّهِ والمَلاذِّ؛ تَحصيلًا لمَصلَحةِ العَبدِ في الآخِرةِ.
2- ما قُطِعَ فيه بتَقديمِ حَقِّ الآدَميِّ، كجَوازِ التَّلَفُّظِ بكَلِمةِ الكُفرِ عِندَ الإكراهِ ولُبسِ الحَريرِ عِندَ الحِكَّةِ، وكتَجويزِ التَّيَمُّمِ بالخَوفِ مِنَ المَرَضِ وغَيرِه مِنَ الأعذارِ، وكذلك الأعذارُ المُجَوِّزةُ لتَركِ الجُمُعةِ والجَماعاتِ، والفِطرِ في رَمَضانَ، وجَوازِ التَّحَلُّلِ بإحصارِ العَدوِّ.
3- ما فيه خِلافٌ: كما إذا وجَدَ المُضطَرُّ مَيتةً وطَعامًا للغَيرِ، فأقوالٌ، الثَّالِثُ مِنها: يَتَخَيَّرُ بَينَهما [3425] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (13/25)، ((القبس)) لابن العربي (ص: 543)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/62)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/204)، ((التلويح)) للتفتازاني (2/300)، ((المنثور)) للزركشي (2/65)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 340)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (4/161)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/2844). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ)؛ لأنَّ حَقَّ العَبدِ قُدِّمَ لمُرَجِّحٍ، وهو حاجَتُه وفَقرُه إلى اللهِ تعالى.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ الإجماعِ:
فقد نَفى ابنُ العَرَبيِّ الخِلافَ في تَقديمِ دَينِ الآدَميِّ على دَينِ اللهِ تعالى [3426] قال: (لا خِلافَ بَينَ العُلَماءِ أنَّ دَينَ الآدَميِّ أحَقُّ مِن دَينِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى هو الغنيُّ، والخَلقُ هم الفُقَراءُ؛ ‌فيُقَدَّمُ ‌َحَقُّ ‌العبدِ لفَقرِه، ويُؤَخَّرُ حَقُّ اللهِ تعالى لغِناهـ). ((القبس)) (ص: 543). .
2- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- وُقوعُ الرُّخَصِ والتَّخفيفاتِ في حُقوقِ اللهِ تَعالى، كقَصرِ الصَّلاةِ والجَمعِ بَينَ الصَّلاتَينِ في السَّفَرِ، وكالتَّيَمُّمِ عِندَ عَدَمِ الماءِ، وكَتَأخيرِ الصِّيامِ للمُسافِرِ في شَهرِ رَمَضانَ إلى أيَّامٍ أُخَرَ... وغَيرُ ذلك كَثيرٌ [3427] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/259). .
2- إذا وجَدَ الرَّجُلُ صَيدًا أو مالَ إنسانٍ، فإنَّه يَأخُذُ الصَّيدَ ويَذبَحُه، ولا يَأخُذُ مالَ المُسلِمِ؛ لأنَّه إذا اجتَمَعَ الحَقَّانِ قُدِّمَ حَقُّ العَبدِ [3428] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (4/161). .
3- ذَهَبَ بَعضُ الفُقَهاءِ إلى أنَّ مَن قَذَفَ غَيرَه فماتَ المَقذوفُ لَم يَبطُلِ الحَدُّ تَغليبًا لحَقِّ العَبدِ على الشَّرعِ، فإنَّه شُرِعَ لدَفعِ العارِ عنِ المَقذوفِ، وهو الذي يَنتَفِعُ به على الخُصوصِ [3429] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (5/327-328). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِشكالٌ:
استُشكِلَ على القاعِدةِ ما إذا كان في يَدِ الرَّجُلِ الحَلالِ صَيدٌ، ثُمَّ أحرَمَ، فإنَّه يَجِبُ عليه إرسالُه، وفي ذلك تَقديمُ حَقِّ الشَّرعِ على حَقِّ العَبدِ.
وأُجيبَ عنه بأنَّه ليس فيه تَقديمُ حَقِّ اللهِ تَعالى على حَقِّ العَبدِ، وإنَّما هو مِن بابِ الجَمعِ بَينَ الحَقَّينِ، وهو واجِبٌ لإمكانِه؛ لأنَّه يُمكِنُه الإرسالُ في مَوضِعٍ لا يَضيعُ مِلكُه أو على وجهٍ لا يَضيعُ. فلَيسَ مِن بابِ التَّرجيحِ؛ لأنَّ التَّرجيحَ إنَّما يُصارُ إلَيه إذا امتَنَعَ الجَمعُ [3430] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (6/467)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 340). .

انظر أيضا: