موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: الأصلُ أنَّه عِندَ اجتِماعِ الحُقوقِ يُبدَأُ بالأهَمِّ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ أنَّه عِندَ اجتِماعِ الحُقوقِ يُبدَأُ بالأهَمِّ" [3347] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1449)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 92). ، وصيغةِ: "الأصلُ أن يُقدَّمَ الأهَمُّ" [3348] يُنظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/432). ، وصيغةِ: "يُقدَّمُ الأهَمُّ عِندَ تَعارُضِ المَصلَحةِ وخَوفِ المَفسَدةِ" [3349] يُنظر: ((التوضيح)) لابن الملقن (6/619). ، وصيغةِ: "الظَّاهرُ وُجوبُ تَقديمِ الأهَمِّ على المُهمِّ" [3350] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (16/82). ، وصيغةِ: "‌يُقدَّمُ الأهَمُّ عِندَ الاجتِماعِ والتَّضادِّ" [3351] يُنظر: ((إتمام الدراية)) للسيوطي (ص: 210). ، وصيغةِ: الأهَمُّ مُقدَّمٌ عِندَ التَّعارُضِ" [3352] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/183). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه عِندَ اجتِماعِ الحُقوقِ أوِ الواجِباتِ، وعَدَمِ التَّعيينِ لأحَدِها، فإنَّه يُبدَأُ بتَقديمِ الأهَمِّ فالأهَمِّ، والأصلَحِ فالأصلَحِ، مِن غَيرِ إخلالٍ بالتَّرتيبِ، ويُؤَخَّرُ غَيرُه عنه [3353] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1449)، ((مفاتيح الغيب)) للرازي (32/270)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/82)، ((إتمام الدراية)) للسيوطي (ص: 210)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/123). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ)؛ لأنَّه عِندَ اجتِماعِ الحُقوقِ لا يُبدَأُ فيها بتَحكيمِ الأهواءِ، وإنَّما يَتَرَجَّحُ الأهَمُّ مِنها فيُبدَأُ به.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- من القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة: 19] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الآيةِ دَلالةٌ على تَقديمِ الإيمانِ والجِهادِ على ما سِواهما مِنَ الأعمالِ؛ لأهَمِّيَّتِهما، ويَتَبَيَّنُ ذلك مِن حَديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضيَ اللهُ عنهما؛ حَيثُ قال: ((كُنتُ عِندَ مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رَجُلٌ: ما أُبالي أن لا أعمَلَ عَمَلًا بَعدَ الإسلامِ، إلَّا أن أسقيَ الحاجَّ. وقال آخَرُ: ما أُبالي أن لا أعمَلَ عَمَلًا بَعدَ الإسلامِ إلَّا أن أعمُرَ المَسجِدَ الحَرامَ. وقال آخَرُ: الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ أفضَلُ مِمَّا قُلتُم. فزَجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكُم عِندَ مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَومُ الجُمُعةِ، ولَكِن إذا صَلَّيتُ الجُمُعةَ دَخَلتُ فاستَفتَيتُه فيما اختَلَفتُم فيه، فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية إلى آخِرِها)) [3354] أخرجه مسلم (1879). .
- وقال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عليْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تَعالى بَدَأ بصِنفَينِ: الأوَّلُ: الفُقَراءُ، وهمُ الذينَ لا يَجِدونَ ما يَقَعُ مَوقِعًا مِن كِفايَتِهم. والصِّنفُ الثَّاني: المَساكينُ، وهمُ الذينَ يَجِدونَ مُعظَمَ الكِفايةِ. والفُقَراءُ والمَساكينُ صِنفانِ في الزَّكاةِ، وكِلاهما يَشعُرُ بالحاجةِ والفاقةِ وعَدَمِ الغِنى، إلَّا أنَّ الفَقيرَ أشَدُّ حاجةً مِنَ المِسكينِ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالى بَدَأ به، وإنَّما يُبدَأُ بالأهَمِّ فالأهَمِّ، فلَو لَم تَكُنْ حاجَتُهم أشَدَّ مِن حاجةِ المَساكينِ لَما بَدَأ بهم [3355] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/306)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (7/206)، ((لباب التأويل)) للخازن (2/373). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ الصَّدَقةِ ما كان عن ظَهرِ غِنًى، وابدَأْ بمَن تَعولُ )) [3356] أخرجه البخاري (1426). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: ((وابدَأْ بمَن تَعولُ)) يَدُلُّ على الابتِداءِ بالأهَمِّ فالأهَمِّ، والأولى فالأولى [3357] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (4/11)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (5/1524)، ((طرح التثريب)) للعراقي (7/177). .
- وعن عَمرِو بنِ تَغلِبَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُتيَ بمالٍ -أو سَبيٍ- فقَسَمَه، فأعطى رِجالًا وتَرَكَ رِجالًا، فبَلَغَه أنَّ الذينَ تَرَكَ عَتَبوا، فحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ أثنى عليه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ فواللهِ إنِّي لَأُعطي الرَّجُلَ، وأدَعُ الرَّجُلَ، والذي أدَعُ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الذي أُعطي، ولَكِن أُعطي أقوامًا لما أرى في قُلوبِهم مِنَ الجَزَعِ والهَلَعِ، وأكِلُ أقوامًا إلى ما جَعَلَ اللهُ في قُلوبِهم مِنَ الغِنى والخَيرِ، فيهم عَمرو بنُ تَغلِبَ )) [3358] أخرجه البخاري (923). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ للإمامِ تَمييزَ البَعضِ بالعَطاءِ لمَصلَحةٍ يَراها، وأنَّه يُقدِّمُ الأهَمَّ فالأهَمَّ [3359] يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (3/14). .
3- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا تَعارَضَ حُكمانِ مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، فيُقدَّمُ الأهَمُّ فالأهَمُّ، وقد وضَعَ العُلَماءُ قَواعِدَ للتَّرجيحِ في ذلك، مِنها: تُقدَّمُ الأحكامُ المَشروعةُ للمَصالِحِ الضَّروريَّةِ على الأحكامِ المَشروعةِ للمَصالِحِ الحاجيَّةِ والتَّحسينيَّةِ؛ فالصَّلاةُ المَفروضةُ لحِفظِ الدِّينِ مُقدَّمةٌ على البَيعِ والشِّراءِ، والمُعامَلاتُ المَشروعةُ لحِفظِ المَصالِحِ الحاجيَّةِ، ومُقدَّمةٌ على النَّوافِلِ والذِّكرِ وتِلاوةِ القُرآنِ. والمُؤمِنُ يَترُكُ البَيعَ والشِّراءَ في بَعضِ الأوقاتِ لأداءِ العِباداتِ المَفروضةِ مِن صَلاةٍ وصيامٍ وحَجٍّ حَتَّى لا تَفوتَ عليه هذه العِباداتُ؛ لأنَّ حِفظَ الدِّينِ ضَروريٌّ وأهَمُّ مِن مُمارَسةِ المُعامَلاتِ وحِفظِ الحاجيَّاتِ [3360] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/123). .
2- مَن أوصى وعليه دَينٌ يُحيطُ بمالِه لَم تَجُزِ الوصيَّةُ؛ لأنَّ الدَّينَ يُقدَّمُ على الوصيَّةِ؛ لأنَّه أهَمُّ الحاجَتَينِ؛ فإنَّه فرضٌ والوصيَّةُ تَبَرُّعٌ، ويُبدَأُ بالأهَمِّ فالأهَمِّ، إلَّا أن يُبرِئَه الغُرَماءُ؛ فتُنَفَّذُ الوصيَّةُ على الحَدِّ المَشروعِ؛ لحاجَتِه إليها [3361] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/515). .
3- إذا اجتَمَعَتِ الوصايا وكان الثُّلُثُ لا يَسَعُ الكُلَّ، ولَم تُجِزِ الورَثةُ، فإن كانت كُلُّها للهِ تَعالى، وهيَ الوصيَّةُ بالقُرَبِ، وكان الكُلُّ فرائِضَ مُتَساويةً، فإنَّه يُبدَأُ بما قدَّمَه الموصي؛ لأنَّ عِندَ تَساويهما لا يُمكِنُ التَّرجيحُ بالذَّاتِ فيُرَجَّحُ بالبِدايةِ؛ لأنَّ البِدايةَ دَليلُ اهتِمامِه بما بَدَأ به؛ لأنَّ الإنسانَ يبدَأُ بالأهَمِّ فالأهَمِّ عادةً [3362] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/371)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/199)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/503). .
4- يَنظُرُ القاضي في قَضايا اللُّقَطةِ والضَّوالِّ وأمرِ الأوقافِ العامَّةِ وغَيرِها مِنَ المَصالِحِ، ويُقدِّمُ الأهَمَّ فالأهَمَّ؛ لأنَّه ليس لَها مُستَحِقٌّ مُعَيَّنٌ، فتَعَيَّنَ على الحاكِمِ النَّظَرُ فيها [3363] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/392)، ((التهذيب)) للبغوي (8/172). .

انظر أيضا: