موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: إذا أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لَم يَجُزْ إسقاطُ أحَدِهما


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إذا أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لَم يَجُزْ إسقاطُ أحَدِهما" [3387] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/118)، ((المغني)) لابن قدامة (11/305)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/155)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (13/287). ، وصيغةِ: "إذا أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لَم يَجُزِ الإخلالُ بأحَدِهما" [3388] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/432)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (24/425). ، وصيغةِ: "إذا أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ مِن غَيرِ ضَرَرٍ لَم يَجُزْ إسقاطُ أحَدِهما" [3389] يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/607)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (13/56). ، وصيغةِ: "إذا أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ مِن غَيرِ نَقصٍ لَم يَجُزْ إسقاطُ أحَدِهما" [3390] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/189)، ((الكافي)) لابن قدامة (3/270). ، وصيغةِ: "إذا أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لَم يَسقُطْ أحَدُهما" [3391] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (4/184). ، وصيغةِ: "الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ أولى مِن تَضييعِ أحَدِهما" [3392] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/276). ، وصيغةِ: "مَعَ إمكانِ استيفاءِ الحَقَّينِ لا يَجوزُ تَركُ أحَدِهما" [3393] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (13/135). ، وصيغةِ: "استيفاءُ الحَقَّينِ أولى مِن تَفويتِ أحَدِهما" [3394] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (15/462)، ((حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب)) (4/39). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه إذا أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ مِن غَيرِ نَقصٍ أو ضَرَرٍ لَم يَجُزْ إسقاطُ أحَدِهما أوِ الإخلالُ به، وإنَّما يُجمَعُ بَينَهما؛ لِما في الجَمعِ بَينَهما مِن رِعايةِ المَصلَحَتَينِ مَعًا، وهو أولى مِن رِعايةِ إحداهما والإخلالِ بالأُخرى [3395] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/189)، ((المغني)) لابن قدامة (11/432)، ((الفروع)) لابن مفلح (6/463)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/607)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (5/359). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ)؛ لأنَّه عِندَ إمكانِ الجَمعِ بَينَ الحَقَّينِ يَكونُ إسقاطُ أحَدِهما تَرجيحًا مِن غَيرِ مُرَجِّحٍ، وهو لا يَجوزُ؛ فتَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ، فكان المَصيرُ إلى الجَمعِ واجِبًا؛ لإمكانِه مِن غَيرِ نَقصٍ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- من القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد: 14-15] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَعنى: أو إطعامُ يَتيمٍ مِن أقارِبِه في أيَّامِ الجوعِ والعَوَزِ، وفي هذا جَمعٌ بَينَ حَقَّينِ: حَقِّ اليَتيمِ وحَقِّ القَرابةِ [3396] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (30/162). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العَبدَ إذا نَصَحَ لسَيِّدِه وأحسَنَ عِبادةَ اللهِ، فلَه أجرُه مَرَّتَينِ )) [3397] أخرجه البخاري (2546)، ومسلم (1664) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه إنَّما ضوعِفَ أجرُ العَبدِ؛ لأنَّ خِدمةَ السَّيِّدِ تَشغَلُ عن عِبادةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فإن تَحَمَّلَ المَشَقَّةَ في الجَمعِ بَينَ الحَقَّينِ ضوعِفَ له أجرُه، فلَه أجرٌ بعِبادةِ رَبِّه، وأجرٌ بخِدمةِ سَيِّدِه، وكُلَّما كَثُرَتِ المَشاقُّ زادَ الأجرُ. فدَلَّ ذلك على فضيلةِ الجَمعِ بَينَ الحَقَّينِ ما أمكَنَ [3398] يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/527). .
3- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا استَعارَ أرضًا للزَّرعِ، فزَرَعَها، ثُمَّ رَجَعَ المُعيرُ فيها قَبلَ كَمالِ الزَّرعِ، فإنَّ عليه أجرَ مِثلِه، مِن حينِ رَجَعَ المُعيرُ؛ لأنَّ الأصلَ جَوازُ الرُّجوعِ، وإنَّما مُنِعَ مِنَ القَلعِ لما فيه مِنَ الضَّرَرِ، وفي دَفعِ الأجرِ جَمعٌ بَينَ الحَقَّينِ [3399] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/353)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (15/80). .
2- مَن غَصَبَ أرضًا وزَرَعَها، وأخَذَ زَرعَه، فعليه أُجرةُ الأرضِ وما نَقَصَها، والزَّرعُ له؛ لأنَّه عَينُ بَذرِه نَما، وإذا أدرَكَها رَبُّها والزَّرعُ قائِمٌ، فلَيسَ له إجبارُ الغاصِبِ على القَلعِ، ويُخَيَّرُ بَينَ تَركِه إلى الحَصادِ بالأُجرةِ، وبَينَ أخذِه، ويَدفَعُ إلى الغاصِبِ نَفَقَتَه، وفي ذلك جَمعٌ بَينَ الحَقَّينِ بغَيرِ إتلافٍ، فلَم يَجُزِ الإتلافُ [3400] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/223). .
3- إذا قَطَعَ رَجُلٌ طَرَفَ رَجُلٍ، وقَتَلَ آخَرَ: قُطِعَ لصاحِبِ الطَّرَفِ، ثُمَّ قُتِلَ للآخَرِ المَقتولِ، سَواءٌ تَقدَّمَ القَطعُ أو تَأخَّرَ؛ لأنَّا إذا قدَّمنا القَتلَ سَقَطَ حَقُّ المَقطوعِ، وإن قدَّمنا القَطعَ لَم يَسقُطْ حَقُّ المَقتولِ؛ لأنَّهما جِنايَتانِ على رَجُلَينِ، فلَم يَتَداخَلا؛ كَقَطعِ يَدِ رَجُلَينِ، ولأنَّه أمكَنَ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ مِن غَيرِ نَقصٍ فلَم يَجُزْ إسقاطُ أحَدِهما [3401] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/189)، ((الكافي)) لابن قدامة (3/270)، ((روضة الطالبين)) للنووي (9/220)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/154). .

انظر أيضا: