موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: الحُقوقُ إذا تَساوت وعُدِمَ التَّرجيحُ صِرنا إلى القُرعةِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الحُقوقُ إذا تَساوت وعُدِمَ التَّرجيحُ صِرنا إلى القُرعةِ" [3370] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/518)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (25/176). ، وصيغةِ: "الحُقوقُ إذا تَساوت ولَم يَكُنْ بَعضُها أولى مِن بَعضٍ قدَّمنا القُرعةَ" [3371] يُنظر: ((المسائل الفقهية من الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (3/106). ، وصيغةِ: "القُرعةُ تُعَيِّنُ المُستَحِقَّ عِندَ استِواءِ الحُقوقِ" [3372] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/196)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (21/330). ، وصيغةِ: "اشتِباهُ الحُقوقِ المُتَساويةِ يوجِبُ تَمييزَها بالقُرعةِ" [3373] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/319)، ((بحر المذهب)) للروياني (14/420). ، وصيغةِ: "القُرعةُ تَدخُلُ لتُمَيِّزَ الحُقوقَ عِندَ التَّساوي" [3374] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/432)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (20/219). ، وصيغةِ: "تُستَعمَلُ القُرعةُ في تَمييزِ المُستَحِقِّ إذا ثَبَتَ الاستِحقاقُ ابتِداءً لمُبهَمٍ غَيرِ مُعَيَّنٍ عِندَ تَساوي أهلِ الاستِحقاقِ" [3375] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (3/157). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه عِندَ تَساوي الحُقوقِ وانعِدامِ التَّرجيحِ بَينَها بسَبَبٍ شَرعيٍّ مَعلومٍ، فإنَّا نَصيرُ إلى القُرعةِ للتَّرجيحِ بَينَها، والقُرعةُ في المُشكِلاتِ سُنَّةٌ عِندَ جُمهورِ الفُقَهاءِ، وإنَّما شُرِعَت عِندَ تَساوي الحُقوقِ دَفعًا للضَّغائِنِ والأحقادِ، ولِلرِّضا بما جَرَت به الأقدارُ، وقَضاه اللهُ تَعالى؛ للعَدلِ بَينَ أصحابِ الحُقوقِ المُتَساويةِ، لتَطمَئِنَّ قُلوبُهم، وتَرتَفِعَ الظِّنَّةُ عَمَّن تَولَّى قِسمَتَهم، ولا يُفَضَّلُ أحَدٌ مِنهم على صاحِبِه إذا كان المَقسومُ مِن جِنسٍ واحِدٍ؛ فشُرِعَتِ القُرعةُ دَفعًا لهذا الفَسادِ والعِنادِ، لا لأنَّ إحدى المَصلَحَتَينِ رَجَحَت على الأُخرى. وبِذلك تَكونُ القُرعةُ مِن جُملةِ البَيِّناتِ التي تَثبُتُ بها الحُقوقُ، فكَما تُقطَعُ الخُصومةُ والنِّزاعُ بالبَيِّنةِ فكَذلك تُقطَعُ بالقُرعةِ؛ ليَتَمَيَّزَ بها الأحَقُّ مِن غَيرِ تُهمةٍ. وتُستَعمَلُ القُرعةُ في تَمييزِ المُستَحِقِّ إذا ثَبَتَ الاستِحقاقُ ابتِداءً لمُبهَمٍ غَيرِ مُعَيَّنٍ عِندَ تَساوي أهلِ الاستِحقاقِ. كما تُستَعمَلُ أيضًا في تَمييزِ المُستَحَقِّ المُعَيَّنِ في نَفسِ الأمرِ عِندَ اشتِباهِه والعَجزِ عنِ الاطِّلاعِ عليه، وسَواءٌ في ذلك الأموالُ والأبضاعُ في ظاهرِ المَذهَبِ عِندَ الحَنابِلةِ [3376] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/75)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/254)، ((المغني)) لابن قدامة (11/518)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/90)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/470)، ((القواعد)) لابن رجب (3/157)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/293)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 340). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ)؛ لأنَّ القُرعةَ مِن أسبابِ التَّرجيحِ عِندَ تَزاحُمِ الحُقوقِ، فإذا تَساوتِ الحُقوقُ صِرنا إليها.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- من القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّهم أقرَعوا لتَحديدِ أيُّهم يَكفُلُ مَريَمَ، فاستِخدامُ القُرعةِ هنا دَليلٌ على مَشروعيَّتِها إذا استَوتِ الحُقوقُ؛ ليَتَمَيَّزَ بها الأحَقُّ مِن غَيرِ تُهمةٍ [3377] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/119)، ((صحيح البخاري)) (2/550)، ((غريب الحديث)) للخطابي (2/256)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/39). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَو يَعلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأوَّلِ ثُمَّ لَم يَجِدوا إلَّا أن يَستَهِموا عليه لاستَهَموا )) [3378] أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على إثباتِ القُرعةِ مَعَ تَساوي الحُقوقِ؛ فإنَّ قَولَه: ((لاستَهَموا)) يُريدُ به القُرعةَ، وإنَّما قيلَ في الإقراعِ الاستِهامُ؛ لأنَّها سِهامٌ يُكتَبُ عليها الأسماءُ، فمَن وقَعَ له مِنها سَهمٌ حازَ ذلك الحَظَّ، فدَلَّ هذا على مَشروعيَّةِ القُرعةِ للعَدلِ بَينَ أصحابِ الحُقوقِ [3379] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/462)، ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (2/348)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/293). .
- وقد أجرى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُرعةَ للتَّرجيحِ في عِدَّةِ مَواطِنَ، مِنها:
عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت: (كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أرادَ سَفَرًا أقرَعَ بَينَ نِسائِه، فأيَّتُهنَّ خَرَجَ سَهمُها خَرَجَ بها مَعَهـ) [3380] أخرجه البخاري (2593) واللفظ له، ومسلم (2770). .
وعن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عنه (أنَّ رَجُلًا أعتَقَ سِتَّةَ مَملوكينَ له عِندَ مَوتِه، لَم يَكُنْ له مالٌ غَيرُهم، فدَعا بهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجَزَّأهم أثلاثًا، ثُمَّ أقرَعَ بَينَهم، فأعتَقَ اثنَينِ، وأرَقَّ أربَعةً) [3381] أخرجه مسلم (1668). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثينِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجرى القُرعةَ بَينَ زَوجاتِه في حَقِّهنَّ في السَّفَرِ مَعَه، كما أجراها بَينَ أصحابِ الحُقوقِ المُشتَرَكةِ في العِتقِ؛ فدَلَّ على أنَّه إذا تَزاحَمَتِ الحُقوقُ يُرَجَّحُ بَينَها، ومِن أسبابِ التَّرجيحِ القُرعةُ [3382] يُنظر: ((المعاملات المالية المعاصرة)) للدبيان (4/354). .
3- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا بَلَغَ الغُلامُ سَبعَ سِنينَ وهو غَيرُ مَعتوهٍ، خُيِّرَ بَينَ أبَويه، فكان مَعَ مَنِ اختارَ مِنهما، فإن لَم يَختَرْ واحِدًا مِنهما، أوِ اختارَهما مَعًا، قُدِّمَ أحَدُهما بالقُرعةِ؛ لأنَّهما تَساويا وتَعَذَّرَ الجَمعُ، فصِرنا إلى القُرعةِ [3383] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (3/247). .
2- إذا تَشاحَّ جَماعةٌ في الأذانِ مَعَ تَساويهم في الصِّفاتِ المُرَجَّحِ بها فيه؛ فإنَّه يُقرَعُ بَينَهم، نَصَّ عليه أحمَدُ واحتَجَّ بأنَّ سَعدًا أقرَعَ بَينَهم في الأذانِ يَومَ القادِسيَّةِ. وكَذلك إذا استَوى جَماعةٌ في الصِّفاتِ المُرَجَّحِ بها في الإمامةِ مِن كُلِّ وجهٍ وتَشاحُّوا؛ أُقرِعَ بَينَهم، كما في الأذانِ [3384] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (3/159-160). .
3- ازدِحامُ الأولياءِ في النِّكاحِ نَصيرُ فيه إلى القُرعةِ، فمَن خَرَجَت له القُرعةُ فهو الوليُّ؛ لأنَّ الحُقوقَ إذا تَساوت وعُدِمَ التَّرجيحُ صِرنا إلى القُرعةِ [3385] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/518)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 340). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها: إذا ادَّعى رَجُلانِ التِقاطَ طِفلٍ، وهو في يَدِ غَيرِهما، وقدِ استَويا في عَدَمِ اليَدِ، ولَم يَصِفْه أحَدُهما فلا حَقَّ لأحَدِهما فيه، ويُعطيه الحاكِمُ لمَن شاءَ مِنهما أو مِن غَيرِهما؛ لأنَّه لَم يَثبُتْ لَهما سَبَبُ الاستِحقاقِ، والحَقُّ لمَن سَبَقَ إلَيه، ولَم يَثبُتِ السَّبقُ لواحِدٍ مِنهما؛ فصارا كَغَيرِهما [3386] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (3/164). .

انظر أيضا: