الفَرعُ الخامِسُ: لا يَجوزُ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ بمُقابَلةِ مَحَلٍّ واحِدٍ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "لا يَجوزُ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ بمُقابَلةِ مَحَلٍّ واحِدٍ"
[3402] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/61)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/177). ، وصيغةِ: "لا يُجمَعُ بَينَ الحَقَّينِ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ"
[3403] يُنظر: ((الكافي)) للسغناقي (1/324). ، وصيغةِ: "الحُقوقُ المُتَعَلِّقةُ بالأموالِ إذا كان طَريقُها واحِدًا لَم يَجُزِ اجتِماعُهما لأجلِ حَقِّ مُستَحِقٍّ واحِدٍ"
[3404] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (3/1300). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الحُقوقَ إذا وجَبَت بسَبَبٍ واحِدٍ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ، وكان أحَدُها بَدَلًا مِنَ الآخَرِ، فإنَّه لا يَجوزُ اجتِماعُها له؛ إذ يَمتَنِعُ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ بمُقابَلةِ مَحَلٍّ واحِدٍ
[3405] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (3/1300)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/74)، ((المبسوط)) للسرخسي (26/61)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/177). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ الجَمعَ بَينَ الحَقَّينِ المُتَزاحِمَينِ اللَّذَينِ طَريقُهما واحِدٌ مُمتَنِعٌ، فيُخَيَّرُ المُكَلَّفُ بَينَهما، أو يَتَرَجَّحُ واحِدٌ مِنهما بمُرَجِّحٍ قَويٍّ؛ لأنَّ تَزاحُمَ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ: عن أبي شُرَيحٍ الكَعبيِّ، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ ولَم يُحَرِّمها النَّاسُ، مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يَسفِكَنَّ فيها دَمًا، ولا يَعضِدَنَّ فيها شَجَرًا، فإن تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ، فقال: أُحِلَّت لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ اللَّهَ أحَلَّها لي ولَم يُحِلَّها للنَّاسِ، وإنَّما أُحِلَّت لي ساعةً مِن نَهارٍ، ثُمَّ هيَ حَرامٌ إلى يَومِ القيامةِ، ثُمَّ إنَّكُم مَعشَرَ خُزاعةَ قَتَلتُم هذا الرَّجُلَ مِن هُذَيلٍ، وإنِّي عاقِلُه، فمَن قُتِلَ له قَتيلٌ بَعدَ اليَومِ فأهلُه بَينَ خيَرَتَينِ: إمَّا أن يَقتُلوا، أو يَأخُذوا العَقلَ)) [3406] أخرجه أبو داود (4504) مختصرًا، والترمذي (1406) واللفظ له، وأحمد (27160). صحَّحه ابن حزم في ((المحلى)) (8/168)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1406)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1232)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (3145)، وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/410): أصلُه في الصَّحيحين، وقال ابنُ حجر في ((بلوغ المرام)) (354): أصلُه في الصَّحيحينِ بمعناه. وأصلُه في صحيح البخاري (104)، ومسلم (1354)، ولَفظُ مُسلِمٍ: عَن أبي شُرَيحٍ العَدَويِّ، أنَّه قال لعَمرِو بنِ سَعيدٍ وهو يَبعَثُ البُعوثَ إلى مَكَّةَ: ائذَنْ لي أيُّها الأميرُ أُحَدِّثْكَ قَولًا قامَ به رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الغَدَ مِن يَومِ الفَتحِ، سَمِعَته أُذُنايَ، ووعاه قَلبي، وأبصَرَته عَينايَ حينَ تَكَلَّمَ به، أنَّه حَمِدَ اللَّهَ، وأثنى عليه، ثُمَّ قال: إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللهُ ولَم يُحَرِّمها النَّاسُ، فلا يَحِلُّ لامرِئٍ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ أن يَسفِكَ بها دَمًا، ولا يَعضِدَ بها شَجَرةً، فإن أحَدٌ تَرَخَّصَ بقِتالِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فيها، فقولوا له: إنَّ اللَّهَ أذِنَ لرَسولِه، ولَم يَأذَنْ لَكُم، وإنَّما أذِنَ لي فيها ساعةً مِن نَهارٍ، وقد عادَت حُرمَتُها اليَومَ كَحُرمَتِها بالأمسِ، وليُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائِبَ. فقِيلَ لأَبِي شُرَيحٍ: ما قال لك عَمرٌو؟ قال: أنا أعلَمُ بذلكَ منك يا أبا شُرَيحٍ، إنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، ولا فَارًّا بدَمٍ، وَلَا فَارًّا بخَربةٍ. .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ قَولَه:
((فأهلُه بَينَ خيَرَتَينِ: إمَّا أن يَقتُلوا، أو يَأخُذوا العَقلَ)) يَدُلُّ على أنَّه لا يَجوزُ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ بمُقابَلةِ مَحَلٍّ واحِدٍ؛ حَيثُ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ أنَّ موجَبَ القَتلِ العَمدِ: القِصاصُ أوِ الدِّيةُ، والخيارُ بَينَهما إلى وليِّ الدَّمِ في التَّعيينِ
[3407] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/176). .
2- مِنَ القواعِدِ: يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (تَزاحُمُ الحُقوقِ لا يُقدَّمُ فيها أحَدٌ على أحَدٍ إلَّا بمُرَجِّحٍ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- أنَّ موجِبَ القَتلِ العَمدِ: القِصاصُ أوِ الدِّيةُ، والخيارُ بَينَهما إلى وليِّ الدَّمِ، ويَتَعَذَّرُ الجَمعُ بَينَهما؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما يَجِبُ حَقًّا للعَبدِ؛ لذلك يَعمَلُ فيه إسقاطُه ويورَثُ عنه، ولا يَجوزُ الجَمعُ بَينَ الحَقَّينِ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ بمُقابَلةِ مَحَلٍّ واحِدٍ، فثَبَتَ الجَمعُ بَينَهما على سَبيلِ التَّخييرِ
[3408] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/61)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/176)، ((بحر المذهب)) للروياني (5/86). .
2- إذا قَذَفَ أجنَبيًّا بالزِّنا، ثُمَّ قَذَفَه بزِنًا آخَرَ قَبلَ أن يُقامَ عليه الحَدُّ، فإنَّه يَلزَمُه حَدٌّ واحِدٌ؛ لأنَّهما حَدَّانِ مِن جِنسٍ واحِدٍ لمُستَحِقٍّ واحِدٍ فتَداخَلا، كما لَو زَنى ثُمَّ زَنى. وقيلَ: يَجِبُ عليه حَدَّانِ؛ لأنَّه مِن حُقوقِ الآدَميِّينَ، فلَم تَتَداخَلْ كالدُّيونِ
[3409] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/351)، ((التهذيب)) للبغوي (6/205)، ((الكافي)) لابن قدامة (4/101). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش