موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الأصلُ رَدُّ الحُقوقِ بأعيانِها عِندَ الإمكانِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ رَدُّ الحُقوقِ بأعيانِها عِندَ الإمكانِ" [3431] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/180)، ((الفقه الإسلامي)) لوهبة الزحيلي (7/5534). ، وصيغةِ: "الأصلُ رَدُّ الحُقوقِ بأعيانِها" [3432] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (12/381). ، وصيغةِ: "الواجِبُ رَدُّ العَينِ ما دامَت مَوجودةً" [3433] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/90)، ((القواعد)) للحصني (3/428). ، وصيغةِ: "رَدُّ العَينِ واجِبٌ، وإن لَزِمَ في مُؤنَتِه أضعافُ قيمَتِه" [3434] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (5/430). ، وصيغةِ: "رَدُّ العَينِ واجِبٌ في الأماناتِ" [3435] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/85). ، وصيغةِ: "لا مُعتَبَرَ بضَمانِ القيمةِ مَعَ بَقاءِ العَينِ" [3436] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/98). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تَتَعَلَّقُ هذه القاعِدةُ ببَيانِ كَيفيَّةِ الضَّمانِ؛ وذلك أنَّ المالَ المَضمونَ إمَّا أن يَكونَ باقيًا بعَينِه أو لا، وإذا لَم يَكُنْ باقيًا بعَينِه فإمَّا أن يَكونَ مِثليًّا أو قيميًّا، وكُلٌّ مِن هذه الأقسامِ له حُكمُه المُختَصُّ به.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الأصلَ العامَّ المُقَرَّرَ في كَيفيَّةِ الضَّمانِ هو رَدُّ الحُقوقِ المَضمونةِ بأعيانِها عِندَ الإمكانِ، فإذا رَدَّها كامِلةَ الأوصافِ فقد بَرِئَ مِن عُهدَتِها. وإن رَدَّها ناقِصةَ الأوصافِ جُبِرَت بالمالِ، فيَجبُرُ الضَّامِنُ ما نَقَصَ مِن أوصافِها بالقيمةِ؛ لأنَّ الأوصافَ لَيسَت مِنَ الأموالِ المِثليَّةِ. وإذا لَم يَرُدَّها جَبَرنا المِثليَّ بمِثلِه، وغَيرَ المِثليِّ بالقيمةِ. وإن رَدَّها ناقِصةَ القيمةِ موفَّرةَ الأوصافِ لَم يَضمَنْ ما نَقَصَ قيمَتُها بانخِفاضِ الأسواقِ؛ لأنَّه لَم يُفَوِّتْ شَيئًا مِن أجزائِها ولا مِن أوصافِها، والصِّفاتُ والمَنافِعُ لا يُمكِنُ رَدُّ أعيانِها، فتُضمَنُ الصِّفاتُ عِندَ الفَواتِ بما نَقَصَ مِن قيَمِ الأعيانِ، وتُضمَنُ المَنافِعُ بأُجورِ الأمثالِ إذا تَعَذَّرَ رَدُّ الأعيانِ.
ولِتَعَذُّرِ رَدِّ الأعيانِ حالانِ:
1- أن تَكونَ الأعيانُ مِن ذَواتِ الأمثالِ، فتُجبَرُ بما يُماثِلُها في الماليَّةِ وجَميعِ الأوصافِ الخَلقيَّةِ، كَضَمانِ البُرِّ بالبُرِّ، والزَّيتِ بالزَّيتِ، والسِّمسِمِ بالسِّمسِمِ. ولا يُعدَلُ عن ذلك إلَّا في صورَتَينِ:
إحداهما: إذا أدَّى إلى نَقصِ الماليَّةِ، مِثلُ أن يَشرَبَ المُضطَرُّونَ ماءً مَغصوبًا في مَظانِّ فقدِ الماءِ وغَلاءِ ثَمَنِه وارتِفاعِ قيمَتِه، فإنَّهم يَضمَنونَه إذا حَضَروا بقيمَتِه في مَحَلِّ عِزَّتِه؛ كَي لا تَضيعَ على مالِكِه قيمَتُه وماليَّتُه.
الثَّانيةُ: جَبرُ لَبَنِ المُصَرَّاةِ بالتَّمرِ؛ فإنَّه مِثليٌّ خارِجٌ عن جَبرِ الأعيانِ بالقيَمِ والأمثالِ، وإنَّما نَحكُمُ بذلك؛ لأنَّا لا نَعلَمُ ما اختَلَطَ مِن لَبَنِ البائِعِ بلَبَنِ المُشتَري، فتَولَّى الشَّرعُ تَقديرَه؛ إذ لا سَبيلَ لَنا إلى تَقديرِه، وجَعَلَه بالتَّمرِ؛ لموافَقَتِه للَّبَنِ في الاقتياتِ، ولِعِزَّةِ التَّقديرِ عِندَ العَرَبِ.
2- أن تَكونَ الأعيانُ مِن ذَواتِ القيَمِ، كالشَّاةِ والبَعيرِ والفَرَسِ، فيُجبَرُ كُلُّ واحِدٍ مِنها بما يُماثِلُه في القيمةِ والماليَّةِ؛ لتَعَذُّرِ جَبرِه بما يُماثِلُه في سائِرِ الصِّفاتِ، فإن أتلَفَه مُتلِفٌ ليس في يَدِه بأن أحرَقَ دارًا لَيسَت في يَدِه، أو أتلَفَ دابَّةً في يَدِ راكِبِها، فإنَّه يَجبُرُ ذلك بقيمَتِه وقتَ إتلافِه؛ لأنَّها هيَ التي فوَّتَها. وإن فاتَ شَيءٌ مِن ذلك تَحتَ يَدِه الضَّامِنةِ بتَفويتِه أو بتَفويتِ غَيرِه أو بآفةٍ سَماويَّةٍ، فإنَّه يُخَيَّرُ بقيمَتِه أكبَرَ ما كانت مِن حينِ وضعِ يَدِه إلى حينِ الفَواتِ تَحتَ يَدِه؛ لأنَّه مُطالَبٌ برَدِّه في كُلِّ زَمانٍ؛ فلِذلك وجَبَ عليه أقصى قيمةٍ. وقيلَ: يُجبَرُ كُلُّ شَيءٍ بمِثلِه مِن حَيثُ الخِلقةُ وإن تَفاوتَت أوصافُه.
وأمَّا صِفاتُ الأموالِ فلَيسَت مِن ذَواتِ الأمثالِ، والطَّريقُ إلى جَبرِها إذا فاتَت تَحتَ الأيدي الضَّامِنةِ أن تُقَوَّمَ العَينُ على أوصافِ كَمالِها، ثُمَّ تُقَوَّمَ على أوصافِ نُقصانِها، فيُجبَرَ التَّفاوُتُ بَينَ الصِّفَتَينِ بما بَينَ القيمَتَينِ، فإذا عَيَّبَ شَيئًا مِنَ الأموالِ فإنَّه يَجبُرُه بما بَينَ قيمَتِه سَليمًا ومَعيبًا [3437] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/180)، ((الذخيرة)) للقرافي (12/381)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/90)، ((الفقه الإسلامي)) لوهبة الزحيلي (7/5534)، ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) لحمد الهاجري (ص: 437). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- من القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188] .
- وقال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيتينِ:
أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أكلَ أموالِ النَّاسِ بدونِ وَجهِ حَقٍّ، وهذا يَستَلزِمُ وُجوبَ إرجاعِها إلى أصحابِها إن كانت باقيةً [3438] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) لحمد الهاجري (ص: 445). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن يَزيدَ بنِ سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَأخُذَنَّ أحَدُكُم مَتاعَ أخيه لاعِبًا ولا جادًّا، ومَن أخَذَ عَصا أخيه فليَرُدَّها )) [3439] أخرجه أبو داود (5003) واللفظ له، والترمذي (2160)، وأحمد (17940). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5003)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17940). وقد ذهب إلى تصحيحِه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1202). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثينِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ أنَّه يَجِبُ على مَن كان عِندَه مالٌ لغَيرِه أن يَرُدَّه إليه [3440] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) لحمد الهاجري (ص: 445)، ((أحكام الغصب)) لعبد الجبار شرارة (ص: 101). .
3- مِنَ الإجماعِ:
نَقَلَ الأسيوطيُّ الإجماعَ في المَسألةِ [3441] قال: (الإجماعُ قد انعَقَد على تحريمِ الغَصبِ وتأثيمِ الغاصبِ، وأنَّه يجِبُ رَدُّ المغصوبِ إن كانت عينًا باقيةً، ولم يُخَفْ من نزعِها إتلافُ نَفسٍ). ((جواهر العقود)) (1/176). .
ونفى ابنُ رُشدٍ [3442] قال: (الواجِبُ على الغاصِبِ إن كان المالُ قائمًا عِندَه بعَينِه لم تدخُلْه زيادةٌ ولا نقصانٌ: أن يَرُدَّه بعَينِه. وهذا لا اختلافَ فيهـ). ((بداية المجتهد)) (4/101). وابنُ قُدامةَ [3443] قال: (من غَصَب شيئًا لَزِمه ردُّه ما كان باقيًا بغَيرِ خِلافٍ نَعلَمُهـ). ((المغني)) (7/361). الخِلافَ في وجوبِ رَدِّ الماليَّاتِ بعَينِها.
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا غَصَبَ حِنطةً تُساوي مِائةً فرَدَّها وهيَ تُساوي عَشَرةً، أو غَصَبَ ثَوبًا يُساوي عَشَرةً فرَدَّه وهو يُساوي خَمسةً؛ لانحِطاطِ الأسعارِ، لَم يَضمَنْ ما نَقَصَ مِن قيمَتِها بانخِفاضِ الأسواقِ؛ لأنَّه رَدَّها موفَّرةَ الأوصافِ، ولَم يُفَوِّتْ شَيئًا مِن أجزائِها ولا مِن أوصافِها [3444] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/180). .
2- الغاصِبُ إذا غَصَبَ أرضًا وحَفَرَها فنَقَصَت بحَفرِه، لَزِمَه أن يَرُدَّ التُّرابَ إلى حُفَرِه؛ ليُسَوِّيَ الأرضَ كما كانت؛ لأنَّ تَأليفَ بَعضِ التُّرابِ إلى بَعضٍ وتَسويةَ الحُفَرِ مِن ذَواتِ الأمثالِ. وعَلى هذا لَو رَفَعَ خَشَبةً مِن جِدارٍ أو حَجَرًا مِن بَينِ أحجارٍ، ثُمَّ رَدَّهما إلى مَكانيهما أجزَأه ذلك؛ لأنَّه مُحَصِّلٌ لمِثلِ الغَرَضِ الأوَّلِ مِن غَيرِ تَفاوُتٍ [3445] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/182). .
3- إذا شَقَّ شَخصٌ ثَوبًا لآخَرَ، بحَيثُ لا يُمكِنُ الاستِفادةُ مِنَ الثَّوبِ، فيَجِبُ عليه ضَمانُه بمِثلِه [3446] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) لحمد الهاجري (ص: 464). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَتَعَلَّقُ بالنُّفوسِ؛ فإنَّها خارِجةٌ عن قاعِدةِ جَبرِ الأموالِ والمَنافِعِ والأوصافِ؛ إذ لا تُجبَرُ بأمثالِها، ولا تَختَلِفُ جَوابِرُها باختِلافِ الأوصافِ في الحُسنِ والقُبحِ والفَضائِلِ والرَّذائِلِ، وإنَّما تَختَلِفُ باختِلافِ الأديانِ والذُّكورةِ والأُنوثةِ، فيُجبَرُ المُسلِمُ بمِائةٍ مِنَ الإبِلِ، والمُسلِمةُ بخَمسينَ مِنَ الإبِلِ، ويُجبَرُ اليَهوديُّ والنَّصرانيُّ بثُلُثِ ديةِ المُسلِمِ، وتُجبَرُ اليَهوديَّةُ والنَّصرانيَّةُ بسُدُسِ ديةِ المُسلِمِ [3447] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/184)، ((الذخيرة)) للقرافي (12/382). .

انظر أيضا: