موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ السَّادِسُ: تَداخُلُ الحُدودِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "مَبنى الحُدودِ على التَّداخُلِ" [1947] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/71، 102). ، ويُعَبَّرُ عنها بـ "تَداخُل الحُدودِ وسُقوطها" [1948] يُنظر: ((الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1171). ، وبصيغةِ: "كُلُّ ما تَكَرَّرَ مِنَ الحُدودِ مِن جِنسٍ واحِدٍ فإنَّه يَتَداخَلُ، وإذا اختَلَفت أسبابُ الحُدودِ لم تَتَداخَلْ [1949] يُنظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 237). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الحُدودُ التي هيَ حَقُّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فإذا كانت مِن جِنسٍ واحِدٍ وكان سَبَبُها واحِدًا فإنَّها تَتَداخَلُ ويُجزِئُ واحِدٌ مِنها عن بَقيَّتِها، وتَداخُلُ الحُدودِ مَعناه أن تُجزِئَ عُقوبةٌ واحِدةٌ عن مَجموعةٍ مِنَ العُقوباتِ أوِ الجَرائِمِ، فمَتى أُقيمَ حَدٌّ مِن هذه الحُدودِ أجزَأَ عن كُلِّ ما تقدَّمَ على الحَدِّ مِن جِنسِ تلك الجِنايةِ التي حُدَّ عليها، ثُمَّ لا يُحَدُّ مَرَّةً أُخرى حتَّى يَستَأنِفَ ارتِكابَ جِنايةٍ جَديدةٍ، أمَّا إن كانتِ الحُدودُ مِن جِنسٍ واحِدٍ ولَكِنَّ أسبابَها مُختَلِفةٌ، كالزِّنا والشُّربِ، فإنَّها لا تَتَداخَلُ، ويُستَوفى جَميعُها عِندَ المالِكيَّةِ إلَّا أن يَكونَ أحَدُها فرعًا للآخَرِ، فيَتَداخَلانِ كَما قيلَ في حَدِّ القَذفِ والشُّربِ [1950] يُنظر: ((المعونة على مذهب عالم أهل المدينة)) للقاضي عبد الوهاب (3/1398)، ((المبسوط)) للسرخسي (9/71، 102)، ((الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1171)، ((المغني)) لابن قدامة (12/381)، ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 589)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/311)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 237)، ((الجامع لعلوم الإمام أحمد)) لخالد الرباط وآخرين (12/349). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ: القُرآنُ والإجماعُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ ذَكَرَت حَدًّا للزَّاني ولَم تُفرِّقْ بَينَ كَونِه مَرَّةً أو أكثَرَ، مَعَ أنَّ سَبَبَ الحَدِّ الإيلاجُ، وهو مُتَكَرِّرٌ في المَرَّةِ الواحِدةِ [1951] يُنظر: ((المعونة على مذهب عالم أهل المدينة)) للقاضي عبد الوهاب (3/1398)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/311). .
2- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ المُنذِرِ [1952] قال: (أجمَعوا أنَّ السَّارِقَ إذا سَرَقَ مَرَّاتٍ إذا قُدِّمَ إلى الحُكَّامِ في آخِرِ السَّرِقاتِ أنَّ قَطعَ يَدِه يُجزِئُ عن ذلك كُلِّهـ). ((الإجماع)) (ص: 116). وقال أيضًا: (وأجمَعَ كُلُّ مَن نَحفظُ عنه مِن أهلِ العِلمِ على أنَّ السَّارِقَ مَرَّاتٍ إذا قُدِّمَ إلى الحاكِمِ في آخِرِ السَّرِقاتِ: أنَّ قَطعَ يَدِه يُجزِئُ مِن ذلك كُلِّه. كذلك قال عَطاءٌ، والزُّهريُّ، ومالِكٌ، وإسحاقُ، وأحمدُ، وأبو ثَورٍ، والنُّعمانُ، ويَعقوبُ. ويُشبِهُ هذا مَذهَبَ الشَّافِعيِّ. والجَوابُ في الرَّجُلِ يَزني مِرارًا، في أنَّ عليه حَدًّا واحِدًا، هكذا). ((الإشراف)) (7/ 211). ، وابنُ قُدامةَ [1953] قال: (ما يوجِبُ الحَدَّ مِنَ الزِّنا، والسَّرِقةِ، والقَذفِ، وشُربِ الخَمرِ، إذا تَكَرَّرَ قَبلَ إقامةِ الحَدِّ، أجزَأَ حَدٌّ واحِدٌ بغَيرِ خِلافٍ عَلِمناه، قال ابنُ المُنذِرِ: أجمَعَ على هذا كُلُّ مَن نَحفظُ عنه مِن أهلِ العِلمِ؛ مِنهم عَطاءٌ، والزُّهريُّ، ومالِكٌ، وأبو حَنيفةَ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ، وأبو يوسُفَ. وهو مَذهَبُ الشَّافِعيِّ). ((المُغَنِّي)) (12/381). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن أقَرَّ بأنَّه زَنا بعَشرِ نِسوةٍ، أو شَهِدَ الشُّهودُ عليه بذلك، أو سَرَقَ مَرَّاتٍ، ولَم يتخلَّلْها حَدٌّ، فإنَّه يُجزِئُه حَدٌّ واحِدٌ عنِ الجَميعِ لتَداخُلِ الحُدودِ [1954] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/71، 102)، ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (22/422)، ((بحر المذهب)) للروياني (13/13)، ((المغني)) لابن قدامة (12/381)، ((نيل المآرب)) لابن أبي تغلب (2/353). .
2- كُلُّ حَدٍّ للهِ عَزَّ وجَلَّ، أو قِصاصٍ، اجتَمَعَ مَعَ القَتلِ، فالقَتلُ يَأتي على ذلك كُلِّه عِندَ المالِكيَّةِ والحَنابِلةِ؛ لأنَّه لا حاجةَ مَعَه إلى الزَّجرِ بغَيرِه، إلَّا حَدَّ القَذفِ عِندَ المالِكيَّةِ، فإنَّه يُقامُ قَبلَ القَتلِ، وذلك لحاجةِ المَقذوفِ؛ إذ يَلحَقُه عارُ القَذفِ إن لم يُحَدَّ له [1955] يُنظر: ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (22/422)، ((المغني)) لابن قدامة (12/381). .

انظر أيضا: