موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: الأصغَرُ هَل يَندَرِجُ في الأكبَرِ أو لا؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصغَرُ هَل يَندَرِجُ في الأكبَرِ أو لا؟" [1915] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/167). . وبصيغةِ: "يَدخُلُ الأصغَرُ في الأكبَرِ" [1916] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (1/97). ، و"الأصغَرُ يَندَرِجُ تَحتَ الأكبَرِ" [1917] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (1/89). ، و"الأُصولُ مَبنيَّةٌ على دُخولِ الأصغَرِ في الأكبَرِ" [1918] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (2/764). ، و"الأصغَرُ يَدخُلُ تَحتَ الأكبَرِ" [1919] يُنظر: ((التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب)) لخليل (1/179). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا اجتَمَعَ أمرانِ مِن جِنسٍ واحِدٍ، وكان أحَدُهما أقَلَّ مِنَ الآخَرِ عَدَدًا أو مَشَقَّةً، أو أقَلَّ اعتِبارًا في الشَّرعِ، فإنَّه يُستَغنى بالأعلى قدرًا أو مَشَقَّةً، وبِالأكثَرِ اعتِبارًا عنِ الأصغَرِ في ذلك، بحَيثُ لا يَحتاجُ المُكَلَّفُ إلى فِعلِ كِلَيهما لتَبرَأَ ذِمَّتُه، بَل تَبرَأُ ذِمَّتُه بفِعلِ الأكبَرِ مِنهما، ويَندَرِجُ الأصغَرُ في الأكبَرِ حينَئِذٍ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ تَطبيقًا لقاعِدةِ (التَّداخُلُ يَدخُلُ في ضُروبٍ) [1920] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (1/97)، ((شرح التلقين)) للمازري (2/764)، ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/167). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ على هذه القاعِدةِ مِنَ السُّنَّةِ والمَعقولِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصَدِّقًا فمَرَرتُ برَجُلٍ، فلَمَّا جَمَعَ لي مالَه لم أجِدْ عليه فيه إلَّا ابنةَ مَخاضٍ، فقُلتُ له: أدِّ ابنةَ مَخاضٍ فإنَّها صَدَقَتُك، فقال: ذاكَ ما لا لَبَنَ فيه ولا ظَهرَ، ولَكِن هذه ناقةٌ فتيَّةٌ عَظيمةٌ سَمينةٌ فخُذْها، فقُلتُ له: ما أنا بآخِذٍ ما لم أومَرْ به، وهذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنك قَريبٌ، فإن أحبَبتَ أن تَأتيَه، فتَعرِضَ عليه ما عَرَضتَ عَلَيَّ فافعَلْ، فإن قَبِلَه مِنك قَبِلتُه، وإن رَدَّه عليك رَدَدتُه، قال: فإنِّي فاعِلٌ، فخَرَجَ مَعي، وخَرَجَ بالنَّاقةِ التي عَرَضَ عليَّ حتَّى قَدِمنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له: يا نَبيَّ اللهِ، أتاني رَسولُك ليَأخُذَ مِنِّي صَدَقةَ مالي، وايمُ اللَّهِ ما قامَ في مالي رَسولُ اللهِ ولا رَسولُه قَطُّ قَبلَه، فجَمَعتُ له مالي، فزَعَمَ أنَّ ما عليَّ فيه ابنةُ مَخاضٍ، وذلك ما لا لبَنَ فيه ولا ظَهرَ، وقد عَرَضتُ عليه ناقةً عَظيمةً فتيَّةً ليَأخُذَها، فأبى عليَّ، وها هيَ ذِه قد جِئتُك بها يا رَسولَ اللهِ، خُذْها، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ذاكَ الذي عليك، فإن تَطَوَّعتَ بخَيرِ آجَرَك اللَّهُ فيه، وقَبِلناه مِنك، قال: فها هيَ ذِه يا رَسولَ اللهِ قد جِئتُك بها فخُذْها، قال: فأمَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَبضِها، ودَعا له في مالِه بالبَرَكةِ )) [1921] أخرجه أبو داود (1583) واللَّفظُ له، وأحمد (21279). صَحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحهـ)) (4/40)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1470)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (10/410)، وحَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1583)، وقال النَّوويُّ في ((المَجموع)) (5/426): إسنادُه صَحيحٌ، وحَسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1583). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبِلَ مِنَ الرَّجُلِ ما هو أكبَرُ مِنَ المَطلوبِ مِنه وأعظَمُ، واستَغنى به عَمَّا دونَه، فأجزَأ ذلك الرَّجُلَ عنِ الصَّدَقةِ الواجِبةِ عليه في مالِه [1922] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) للعيني (6/276)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/197، 198). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وما في هذا الحَديثِ مِن إجزاءِ سِنٍّ أعلى مِنَ الواجِبِ مَذهَبُ عامَّةِ أهلِ العِلمِ الفُقَهاءِ المَشهورينَ وغَيرِهم، فقد ثَبَتَ أنَّ إبدالَ الواجِبِ بخَيرٍ مِنه جائِزٌ، بَل يُستَحَبُّ فيما وجَبَ بإيجابِ الشَّرعِ وبِإيجابِ العَبدِ) [1923] ((مجموع الفتاوى)) (31/249). .
- وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رَجُلًا قال يَومَ الفتحِ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرتُ إن فتَحَ اللهُ عليك مَكَّةَ أن أُصَلِّيَ في بَيتِ المَقدِسِ، فقال: صَلِّ هَهنا، فسَألَه فقال: صَلِّ هَهنا، فسَألَه فقال: شَأنُك إذَنْ )) [1924] أخرجه أبو داود (3305)، وأحمد (14919) واللفظ له. صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (8050)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (266) وقالا: على شَرطِ مُسلِم، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (112)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/509)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3305)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((المجموع)) (8/473)، وابن كثير في ((الأحكام الكبير)) (1/374). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّه إذا نَذَرَ الأدنى جازَ الأعلى؛ لأنَّه أفضَلُ [1925] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/181)، ((لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح)) لعبد الحق الدهلوي (6/263). .
2- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ الأدنى مَوجودٌ في الأعلى وزيادةٌ [1926] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/127). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن أحدَثَ ثُمَّ أصابَته جَنابةٌ فإنَّ الحَدَثَ يَدخُلُ في الجَنابةِ عِندَ المالِكيَّةِ وفي أحَدِ أقوالِ الشَّافِعيَّةِ، ويَلزَمُه الغُسلُ وحدَه دونَ الوُضوءِ، وبِأيِّ مَوضِعٍ بَدَأ مِن بَدَنِه أجزَأه، ووجهُ ذلك أنَّ الحَدَثَ مَعَ الجَنابةِ هو أصغَرُ نَوعَيِ الجِنسِ، فإذا اجتَمَعا دَخَلَ الأصغَرُ في الأكبَرِ [1927] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/222)، ((شرح التلقين)) للمازري (2/764)، ((المعاني البديعة)) للريمي (1/60). .
2- العُمرةُ تَدخُلُ في عَمَلِ الحَجِّ لمَن قَرَنَ الحَجَّ والعُمرةَ عِندَ الجُمهورِ ما عَدا الحَنَفيَّةَ؛ وذلك لأنَّ أعمالَ العُمرةِ جُزءٌ مِن أعمالِ الحَجِّ، فاندَرَجَ الأصغَرُ في الأكبَرِ [1928] يُنظر: ((التفريع في فقه الإمام مالك)) لابن الجلاب (1/216)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/222)، ((شرح التلقين)) للمازري (2/764)، ((المغني)) لابن قدامة (5/347). .
3- مَن كانت عِندَه خَمسٌ مِنَ الإبِلِ وتَوافرَت فيها شُروطُ الزَّكاةِ، فإنَّ الواجِبَ فيها شاةٌ، فلَو أخرَجَ بَعيرًا عنِ الشَّاةِ أجزَأَه عِندَ الحَنَفيَّةِ والشَّافِعيَّةِ؛ لاندِراجِ الأصغَرِ في الأكبَرِ؛ لأنَّ البَعيرَ يُجزِئُ عن خَمسٍ وعِشرينَ مِنَ الإبِلِ، وهو أكبَرُ مِنَ الشَّاةِ، فإجزاؤُه عنِ الشَّاةِ والخَمسِ مِنَ الإبِلِ أَولى [1929] يُنظر: ((شرح مختصر اختلاف العلماء)) للجصاص (2/369)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/101،100)، ((المبسوط)) للسرخسي (2/157). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
لا يَدخُلُ في هذه القاعِدةِ العِباداتُ المَحضةُ، مِثلُ:
1- مَسحُ الرَّأسِ في الوُضوءِ؛ فلَيسَ للمُتَوضِّئِ أن يَزيدَ فيَغسِلَ رَأسَه [1930] قال الطَّحاويُّ: (ألَا تَرى مَن غَسَل رَأسَه في وضوئِه لم يَكُنْ مُثابًا على ذلك؛ إذ كان فرضُه فيه غَيرَ الغَسلِ)). ((أحكام القرآن)) (1/ 86). وقال ابنُ رَجَبٍ: (الاكتِفاءُ بغَسلِ الرَّأسِ عن مَسحِه يَدُلُّ على أنَّ غَسلَ الرَّأسِ في الوُضوءِ يُجزِئُ عن مَسحِه، لكِنَّه في الوُضوءِ المُفرَدِ مَكروهٌ، وفي الوُضوءِ المَقرونِ بالغُسلِ غَيرُ مَكروهٍ). ((فتح الباري)) (1/ 239). .
2- أفعالُ الصَّلاةِ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((صَلُّوا كَما رَأيتُموني أُصَلِّي )) [1931] أخرجه البخاري (631) من حديثِ مالِكِ بنِ الحُوَيرِثِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
3- مَناسِكُ الحَجِّ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُذوا عنِّي مَناسِكَكُم)) [1932] أخرجه مسلم (1297) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ بلَفظ: (لتَأخُذوا مَناسِكَكُم، فإنِّي لا أدري لعَلِّي لا أحُجُّ بَعدَ حَجَّتي هذهـ). .
فلَيسَ لأحَدٍ أن يَزيدَ في أفعالِ الصَّلاةِ أوِ الحَجِّ عَمدًا ثُمَّ يَتَذَرَّعَ بأنَّ الأصغَرَ يَدخُلُ في الأكبَرِ [1933] قال الكاسانيُّ: (ليسَ إلى العِبادِ إبطالُ قَدرِ العِباداتِ الموظَّفةِ عليهم بالزِّيادةِ والنُّقصانِ). ((بدائع الصنائع)) (1/ 92). .

انظر أيضا: