الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ التَّاسِعُ: اشتِراطُ الاجتِهادِ


اختَلَفَ الفُقَهاءُ في اشتِراطِ الاجتِهادِ لصِحَّةِ القَضاءِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يُشتَرَطُ في القاضي أن يَكونَ مُجتَهِدًا، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [94] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/415)، ((روضة الطالبين)) للنووي (11/95). ، والحَنابِلةِ [95] ((الإنصاف)) للمرداوي (11/177)، ((منتهى الإرادات)) لابن النجار (5/268). ، وقَولٌ للحَنَفيَّةِ [96] ((البناية)) للعيني (9/4). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ [97] ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/88،89)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/129). ، وحُكِيَ الإجماعُ على تحريمِ التَّقليدِ للقاضي [98] قال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفَقوا أنَّه لا يَحِلُّ لقاضٍ ولا لمُفتٍ تَقليدُ رَجُلٍ بعَينِه بَعدَ مَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يَحكُمُ ولا يُفتي إلَّا بقَولِه، وسَواءٌ كانَ ذلك الرَّجُلُ قديمًا أو حَديثًا). ((مراتب الإجماع)) (ص: 50). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
1- قَولُه تعالى: فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ [النساء: 59] .
2- قَولُه تعالى: إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ [النساء: 105] .
3- قَولُه تعالى: وَأَنِ ٱحۡكُمْ بَيۡنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ [المائدة: 49] .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآياتِ:
دَلَّت هذه الآياتُ على أنَّ الحُكمَ بَينَ النَّاسِ يَكونُ بما أنزَلَ اللهُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، والتَّقليدُ ليس مِمَّا أنزَلَ اللهُ [99] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/19)، ((المغني)) لابن قدامة (10/37). .
4- قَولُه تعالى: قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ [الزمر: 9] .
أوَجهُ الدَّلالةِ:
- دَلَّت هذه الآيةُ على المَنعِ مِنَ المُساواةِ بَينَ العالِمِ وغَيرِ العالِمِ، وهيَ عامَّةٌ تَشمَلُ القَضاءَ وغَيرَه [100] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/159). .
- أنَّ سياقَ الآيةِ يَدُلُّ على الزَّجرِ مِن تَسويةِ العالِمِ بغَيرِ العالِمِ، والزَّجرُ يُفيدُ الأمرَ بالتَّفريقِ بَينَهما [101] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/159). .
5- قَولُه تعالى: وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ [الإسراء: 36] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ مَن حَكَمَ بما لا يَعلَمُ فقد قَفا ما ليس له به عِلمٌ، وعَصى اللهَ عَزَّ وجَلَّ [102] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (8/428). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن بُرَيدةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((القُضاةُ ثَلاثةٌ: واحِدٌ في الجَنَّةِ، واثنانِ في النَّارِ؛ فأمَّا الذي في الجَنَّةِ فرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فقَضى به، ورَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فجارَ في الحُكمِ فهو في النَّارِ، ورَجُلٌ قَضى للنَّاسِ على جَهلٍ فهو في النَّارِ)) [103] أخرجه أبو داود (3573) واللفظ له، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315). صحَّحه الطَّحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (9/209)، وابن الملقِّن في ((شرح البخاري)) (32/493)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3573)، وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (5/61): حَسَنٌ أو صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على تَحريمِ حُكمِ القاضي عَن جَهلٍ، وهذا يُفيدُ دُخولَ المُقَلِّدِ والعامِّيِّ في الوعيدِ؛ لأنَّهما يَقضيانِ عَن جَهلٍ، فلا يَصِحُّ تَوليَتُهمُ القَضاءَ [104] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/160). .
2- عَن عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فلَه أجرانِ، وإذا حَكَمَ فاجتَهَدَ ثُمَّ أخطَأ فلَه أجرٌ)) [105] أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) مِن حَديثِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّ القاضيَ يَجِبُ عليه الاجتِهادُ إذا أرادَ أن يَحكُمَ [106] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/238). .
ثالِثًا: أنَّ المُفتيَ لا يَجوزُ أن يَكونَ عامِّيًّا مُقَلِّدًا، فالقاضي أَولى بذلك؛ لأنَّ القَضاءَ آكَدُ مِنَ الفُتيا، فهو فُتيا وإلزامٌ [107] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/160)، ((المغني)) لابن قدامة (10/38). .
رابِعًا: أنَّ التَّقليدَ في الفُروعِ يُعَدُّ مِنَ الضَّروراتِ، فلَم يُفرَضْ إلَّا على مُلتَزِمِ الحَقِّ دونَ القاضي الذي يُلزِمُ بالحَقِّ [108] يُنظر: ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 114). .
القَولُ الثَّاني: لا يُشتَرَطُ في القاضي أن يَكونَ مُجتَهِدًا، ويَحكُمُ بالتَّقليدِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [109] ((البناية)) للعيني (9/4)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/288)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/365)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/3). ، والمُعتَمَدُ عِندَ المالِكيَّةِ [110] ((الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي)) (4/129). والمالِكيَّةُ وإن كانوا لا يَشتَرِطونَ الاجتِهادَ لصِحَّةِ القَضاءِ، لَكِن لا يَرَونَ جَوازَ العُدولِ عَنِ المُجتَهِدِ إلى غَيرِه. ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/89). ، ووَجهٌ عِندَ الحَنابِلةِ [111] ((الإنصاف)) للمرداوي (11/178)، ((الإقناع)) للحجاوي (4/368). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَمَنِ قاضيًا، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، تُرسِلُني وأنا حَديثُ السِّنِّ ولا عِلمَ لي بالقَضاءِ! فقال: إنَّ اللهَ سيَهدي قَلبَكَ، ويُثَبِّتُ لسانَكَ، فإذا جَلَسَ بَينَ يَدَيكَ الخَصمانِ فلا تَقضيَنَّ حَتَّى تَسمَعَ مِنَ الآخَرِ كما سَمِعتَ مِنَ الأوَّلِ؛ فإنَّه أحرى أن يَتَبَيَّنَ لَكَ القَضاءُ، قال: فما زِلتُ قاضيًا، وما شَكَكتُ في قَضاءٍ بَعدُ)) [112] أخرجه أبو داود (3582) واللفظ له، والترمذي (1331) مختصرًا، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (1287). حسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3582)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/302). وأخرجه من طريقٍ آخَرَ: ابنُ ماجه (2310)، وأحمد (1145)، ولَفظُ ابنِ ماجَه: عَن عَليٍّ، قال: بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَمَنِ، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، تَبعَثُني وأنا شابٌّ، أقضي بَينَهم، ولا أدري ما القَضاءُ! قال: فضَرَبَ بيَدِه في صَدري، ثُمَّ قال: اللهُمَّ اهدِ قَلبَه، وثَبِّتْ لِسانَه، قال: فما شَكَكتُ بَعدُ في قَضاءٍ بَينَ اثنَينِ. صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (4658)، وقال على شرطِ الشَّيخين، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (231)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1145). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على عَدَمِ اشتِراطِ الاجتِهادِ في القاضي؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولَّى عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه ولَم يَكُنْ مِن أهلِ الاجتِهادِ في ذلك الوقتِ [113] يُنظر: ((البناية)) للعيني (9/5). .
ثانيًا: أنَّ القاضيَ يُمكِنُه إذا لم يَكُنْ مُجتَهِدًا أن يَقضيَ بعِلمِ غَيرِه بالرُّجوعِ إلى فتوى العُلَماءِ، فيَحصُلُ الغَرَضُ مِنَ القَضاءِ [114] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/3). .
ثالِثًا: أنَّ الاجتِهادَ مُتَعَذِّرُ الوُجودِ في كُلِّ الأزمانِ والبُلدانِ [115] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (5/365). .
رابِعًا: قياسُ الحُكمِ بفُتيا المُفتي على الحُكمِ بشَهادةِ الشَّاهِدين، وعَلى الحُكمِ بقيمةِ المُقَوِّمينَ في جَوازِ الأخذِ بها، بجامِعِ الجَهلِ بما تَوصَّلوا به إلى الصِّحَّةِ [116] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/159). .

انظر أيضا: