موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الأوَّلُ: مَواضِعُ الفَصْلِ


الفَصْلُ هو إسْقاطُ واوِ العطْفِ، ومَواضِعُ ذلك عندَ البَلاغيِّينَ أرْبعةٌ:
أوَّلًا: كَمالُ الانْقِطاعِ معَ عدَمِ الإيْهامِ
وذلك إذا كان بينَ الجُملتَينِ اخْتِلافٌ تامٌّ، بحيثُ لا يُتصوَّرُ عطْفُ إحداهما على الأخرى، ولا يَنتِجُ عن هذا الفَصْلِ إيْهامٌ. وذلك حاصِلٌ في صُورتَين:
1- اخْتِلافِ الجُملتَين خبَرًا وإنْشاءً، لفْظًا ومَعْنًى، أو مَعْنًى فقَطْ، فمِنَ المُخْتلِفِ لفْظًا ومَعْنًى قولُه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 5-6] ؛ فقد فُصِلتِ الجُملةُ الطَّلَبيَّةُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ عنِ الجُملةِ الخبَريَّةِ الَّتي قبلَها، معَ اخْتِلافِهما في المَعْنى.
ومِنَ المُختلِفِ مَعْنًى فقطْ قولُ الشَّاعِرِ: الوافر
جزَى اللهُ الشَّدائِدَ كلَّ خيْرٍ
عرفْتُ بها عَدوِّي مِن صَديقي
فالجُملةُ الأُولى "جزَى اللهُ الشَّدائِدَ كلَّ خيْرٍ" خبَريَّةٌ لفْظًا إنْشائيَّةٌ مَعْنًى، والثَّانيةُ خبَريَّةٌ لفْظًا ومَعْنًى.
2- ألَّا تكونَ هناك عَلاقَةُ اتِّصالٍ بَيْنَ الجُملتَينِ، فلا يَصِحُّ أنْ تُعطَفَ هاتانِ الجُملتانِ: "مُحمَّدٌ كريمٌ، والسَّماءُ صافِيةٌ"؛ إذْ لا عَلاقَةَ بَيْنَ الجُملَتَينِ.
ثانيًا: شِبْهُ كَمالِ الانْقِطاعِ:
وهُو أنْ يكونَ بَيْنَ الجُملتَينِ تَقارُبٌ وعَلاقةٌ تُوجِبُ الوصْلَ، غيرَ أنَّ الفَصْلَ بينَهما يَرجِعُ إلى السِّياقِ ذاتِه، كقَولِه تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 14-15] ؛ فإنَّنا إزاءَ جُمَلٍ ثَلاثٍ: جَوابِ الشَّرطِ: قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، وجُملةِ: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، وجُملةِ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، والفَصْلُ بينَ الجُملةِ الثَّانيةِ والثَّالثةِ هو مِن قَبيلِ شِبْهِ كَمالِ الانْقِطاعِ؛ فإنَّك لو عطَفتَ الجُملةَ الثَّالثةَ على الجُملةِ الثَّانيةِ لاقْتَضى أنْ يكونَ قولُه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ مِن كَلامِ المُنافِقين، وهُو رَدٌّ مِنَ اللهِ على كَلامِهم، ولو عطَفتَ على الجُملةِ الأُولى اقْتَضى ذلك أنْ يكونَ اسْتِهزاءُ اللهِ بهم مَشْروطًا باسْتِهزائهم وخُلوِّهم إلى شَياطينِهم، والأمرُ ليس كذلك، بلِ اسْتِهزاءُ اللهِ بهم واقِعٌ في كلِّ وقتٍ.
ثالِثًا: كَمالُ الاتِّصالِ
وهُو أنْ يكونَ هناك اتِّفاقٌ تامٌّ بينَ الجُملتَينِ، سواءٌ الخبَريَّةُ أمِ الإنْشائيَّةُ، وهُو أنْ تكونَ الجُملةُ الثَّانيةُ مُؤكِّدةً للأُولى، كقَولِه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا [لقمان: 7] ، فجُملةُ: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا تَوْكيدٌ للجُملةِ قبلَها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ ولِهذا لم يَجُزِ الوصْلُ. ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
ونحنُ أُناسٌ لا توسُّطَ عندَنا
لنا الصَّدرُ دُونَ العَالَمينَ أوِ القبْرُ
فعَجُزُ البيتِ تَوْكيدٌ لصَدرِه.
أو تكونَ الجُملةُ الثَّانيةُ بدَلًا منِ الجُملةِ الأُولى، سواءٌ كان البدَلُ بدَلَ كلٍّ مِن كلٍّ، كقَولِه تعالى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المُؤْمنون: 81-82] ، أو بدَلَ بعضٍ مِن كلٍّ، كقَولِه تعالى: وَاتَّقُوا الَّذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ [الشعراء: 132-133] ، أو بدَلَ اشْتِمالٍ، كقَولِه سُبحانه: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس: 20-21] .
أو تكونَ الجُملةُ الثَّانيةُ عطْفَ بَيانٍ للأُولى، كما في قَولِه تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [طه: 120] ، وقَولِه سُبحانه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة: 49] .
رابعًا: شِبْهُ كَمالِ الاتِّصالِ
وهُو إذا كانتِ الجُملةُ الثَّانيةُ بمَنْزِلةِ جَوابٍ عن سُؤالٍ افْتراضيٍّ مَفْهومٍ مِنَ الجُملةِ الأُولى، كقَولِه تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف: 53] ؛ فكأنَّ القارِئَ أوِ السَّامِعَ تَساءلَ: ولِم لمْ يُزكِّ يُوسفُ عليه السَّلامُ نفْسَه؟ فأُجيبَ: إنَّ النَّفْسَ لأمَّارةٌ بالسُّوءِ إلَّا ما رحِم ربِّي.
ومِن هذا القَبيلِ عدَّ البَلاغيُّونَ كلَّ جُملةٍ قُرآنيَّةٍ مَبْدوءةٍ بلفْظِ: "قال" غيرِ مَسْبوقةٍ بالواوِ، قال عبدُ القاهِرِ: (واعلَمْ أنَّ الَّذي تراهُ في التَّنْزيلِ مِن لفْظِ "قال" مَفْصولًا غيرَ مَعْطوفٍ، هذا هو التَّقْديرُ فيه، واللهُ أعلَمُ. أعْني مِثلَ قولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [الذاريات: 24-28]، جاء على ما يقعُ في أنْفُسِ المَخْلوقينَ مِنَ السُّؤالِ. فلمَّا كان في العُرفِ والعادَةِ فيما بينَ المَخْلوقينَ إذا قيل لهم: "دخَل قومٌ على فُلانٍ فقالوا كذا"، أخرجَ الكَلامَ ذلك المُخْرجَ؛ لأنَّ النَّاسَ خُوطبوا بما يَتَعارفونَه، وسَلَك باللَّفظِ معَهم المَسْلكَ الَّذي يَسْلُكُونه.
وكذلك قولُه: قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ؛ وذلك أنَّ قولَه: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ يَقْتضي أنْ يُتْبعَ هذا الفِعلُ بقولٍ، فكأنَّه قِيل -واللهُ أعلمُ-: "فما قال حينَ وضَع الطَّعامَ بَيْنَ أيديهم؟"، فأتى قولُه: قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ جَوابًا عن ذلك.
وكذا: قَالُوا لَا تَخَفْ؛ لأنَّ قولَه: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً يَقْتضي أنْ يكونَ مِنَ المَلائِكةِ كَلامٌ في تأنيسِه وتَسْكينِه ممَّا خامَره، فكأنَّه قيلَ: "فما قالوا حينَ رأوه وقد تغيَّر ودخَلتْه الخِيفةُ؟ " فقيل: "قالوا: لا تَخَفْ) [264] ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر (ص: 240). ويُنظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 484)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 57). .

انظر أيضا: