موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّاني: مَواضِعُ الوَصْلِ


تَنْحصِرُ مَواضِعُ الوصْلِ عندَ البَلاغيِّينَ في ثَلاثةِ مَواضِعَ:
أوَّلًا: التَّوسُّطُ بَيْنَ كَمالِ الانْقِطاعِ وكَمالِ الاتِّصالِ
وهُو إذا كان بَيْنَ الجُمْلتَينِ بعضُ الاتِّفاقِ وبعضُ الاخْتِلافِ، مِثلُ قولِه تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13-14]؛ فإنَّه وجَب الوصْلُ بَيْنَ الجُمْلتَينِ بالواوِ؛ لأنَّ بَيْنَ الجُمْلتَينِ اتِّصالًا واتِّفاقًا، وهُو أنَّ الجُمْلتَينِ خبَريَّتانِ، وبينَهما في المَعْنى عَلاقَةُ تَضادٍّ، وبينَهما كذلك اخْتِلافٌ، وهو اخْتِلافُ المَدْلولِ مِن كلٍّ منْهما.
ومنه أيضًا قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه: 25-29] ، فبَيْنَ الآياتِ اتِّفاقٌ، وهُو أنَّها كلَّها جُمَلٌ إنْشائيَّةٌ، وهِي كلُّها مَطْلوباتٌ ودَعَواتٌ، ومعَ ذلك اخْتلَفتْ في أنَّ المَطْلوبَ في كلٍّ منها يَخْتلفُ عنِ المَطْلوبِ في الأخرى.
ثانِيًا: كَمالُ الانْقِطاعِ معَ الإيْهامِ
وهُو ألَّا يكونَ بينَ الجُمْلتَينِ اتِّصالٌ أبدًا، إلَّا أنَّ الوصْلَ يُوهِمُ اخْتِلافَ المَعْنى المَقْصودِ، كما لو سُئل رجُلٌ: أتَعلَمُ بمَرضِ فُلانٍ؟ فقال: "لا شفَاه اللهُ" لظَنَّ السَّامِعُ أنَّه يَدعو عليه؛ ولِهذا وجَب هنا الوصْلُ، فيُقالُ: "لا وشفَاه اللهُ". وقيل: إنَّ أبا بكْرٍ الصِّدِّيقَ رضِي اللهُ عنه رأى رجُلًا يَحمِلُ ثوبًا في يدِه، فقال: أتَبيعُ هذا الثَّوبَ؟ فقال: "لا يَرْحمُك اللهُ"، فقال: قلْ: "لا، ويَرْحمُك اللهُ".
والمَلْحوظُ هنا أنَّ هذا الأمرَ يُمكِنُ تَفاديه عن طَريقِ التَّنْغيمِ في الأداءِ، فكلُّ لُغةٍ فيها مِنَ التَّنْغيماتِ ما تُخالِفُ به بينَ المَعاني المُخْتلفةِ للكَلمةِ الواحِدةِ، فنُطْقُ الكَلمةِ يدُلُّ على غضَبِ الشَّخصِ أو فرَحِه ونحوِ ذلك.
كما يُمكِنُ تَفاديه أيضًا في اللُّغةِ المَكْتوبةِ عن طَريقِ اسْتِعمالِ التَّرْقيمِ، فتقولُ: "لا، يَرْحمُك اللهُ"، وهكذا.
ثالِثًا: أنْ يكونَ للجُملةِ الأُولى مَحلٌّ مِنَ الإعْرابِ، وقُصِدَ إشْراكُ الجُملةِ الثَّانيةِ لها في الحُكْمِ الإعْرابيِّ، ولا مانِعَ مِن ذلك
كما في قولِ أبي العَلاءِ المَعَرِّيِّ:
وحُبُّ العَيْشِ أعْبَدَ كلَّ حُرٍّ
وعلَّمَ ساغِبًا أكْلَ المَرارِ
فالجُملةُ الفِعْليَّة: (أعْبَدَ كلَّ حرٍّ) في مَحلِّ رفعٍ خبَرٌ للمُبْتَدأِ (حُبُّ)، وقصَد الشَّاعرُ إشْراكَ الجُملةِ الفِعْليَّةِ (علَّم ساغِبًا أكْلَ المَرارِ) في هذا الحُكْمِ الإعْرابيِّ، ولا مانِعَ مِن ذلك [265] ينظر: ((البلاغة الواضحة)) (ص: 253، 255)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 163 - 164)، ((علم المعاني في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص: 191 - 197)، ((البلاغة الصافية)) لحسن إسماعيل (ص: 232). .

انظر أيضا: