موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: اخْتيارُ الضَّمائِرِ في تَعْريفِ المُسنَدِ إليه


يَستخدِمُ المُتكلِّمُ الضَّمائِرَ في الكَلام إذا كان المَقامُ يدعو إلى ذلك؛ وذلك إذا كان المُتكلِّمُ يَتحدَّثُ عن نفْسِه، فإنَّه يَستخدِمُ ضَميرَ المُتكلِّمِ، كقولِ اللهِ تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 12-14] ، فاخْتار سُبحانَه الياءَ في "إنِّي"، وضَميرَ المُتكلِّمِ "أنا"، والياءَ في "فاعْبُدنِي" و"لذِكْري".
وقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنا النَّبيُّ لا كذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ )) [232] أخرجه البخاري (2864)، ومسلم (1776) وفي أوله قصة من حديث البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومنه قولُ أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي: البسيط
أنا الَّذي نظَر الأعْمى إلى أدَبي
وأسْمعَتْ كَلماتي مَنْ به صَمَمُ
فاسْتِخدامُ ضَمائِرِ المُتكلِّمِ وهِي "أنا"، والياءُ في "أدَبي" و"كَلِماتي" واضِحٌ في البيتِ.
فإذا كان المُتكلِّمُ غيرَ واحِدٍ اسْتخدَم مِنَ الضَّمائِرِ ما يُناسِبُه، كقولِ المَلائِكةِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] ، وقولِ آدمَ وحوَّاءَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] .
ففي الآيةِ الأُولى: "نحنُ" والنُّونُ في "نُسبِّحُ" و"نُقدِّسُ"، وفي الثَّانيةِ: النُّونُ في "ربَّنا"، "ظلمْنا"، "أنْفُسَنا"، "لنا"، "ترحمْنا"، "لنَكوننَّ".
وإذا كان المُتكلِّمُ يُخاطِبُ غيرَه، فإنَّه يَسْتعملُ له ضَميرَ المُخاطَبِ، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 1 - 7] . فأفْعالُ الأمرِ الَّتي تَرفعُ ضَميرًا واجِبَ الحذْفِ تقْديرُه "أنت"، بالإضافَةِ إلى الكَافِ في "ربَّكَ"، "ثيابَكَ"، كذلك الضَميرُ المُسْتتِرُ في النَّهيِ "لا تَمنُنْ".
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
وأنت الَّذي أخْلَفتَني ما وعَدتَني
وأشمَتَّ بي مَنْ كان فِيكَ يَلومُ
فالضَّميرُ "أنت" والتَّاءُ في "أخْلَفتَني" و"وعَدتَني" و"أشمتَّ" والكافُ في "فيك" كلُّها تَعودُ على المُخاطَبِ.
ويَسْتخدمُ كذلك ضَميرَ الغَيبةِ في الحَديثِ عنِ الغائِبِ غيرِ المُخاطَبِ، ولكنْ بشرْطِ أنْ يَسبِقَ ذكْرُه إمَّا لفظًا، كقَولِه تعالى: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف: 87] ؛ فالضَّميرُ "هو" يَعودُ على اللهِ سُبحانَه وتعالى، وقد ذُكِر صَراحةً قبلَ الضَّميرِ بكَلِمتَينِ.
وإمَّا أنْ يَسبِقَ ذكْرُه في المَعْنى، وهو أنْ يُذكَرَ في الكَلامِ ما يدُلُّ على الغائِبِ ليَجوزَ التَّعبيرُ عنه بعدَ ذلك بالضَّميرِ، كقَولِه تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور: 28] ؛ فإنَّ الضَّميرَ "هو" يَعودُ على الرُّجوعِ، وهُو وإنْ لم يكنْ مَذْكورًا لفْظًا إلَّا أنَّ في اسْتِخدامِ الفِعلِ "ارْجِعوا" بَيانًا له. ومنه قولُه تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] ؛ أيِ: العدْلُ أقرَبُ للتَّقوى، فاسْتُفيدَ معناه مِنَ الفِعلِ قبلَه.
وإمَّا أنْ تأتيَ قَرينةٌ تُبيِّنُ ما يَعودُ عليه الضَّميرُ، كقَولِه تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11] ؛ فإنَّ الضَّمائِرَ في "ترَك"، "لأبَويه"، "له"، "وَرِثَه"، "أبَواه"، "لأمِّه"، "يُوصي" كلَّها تَعودُ على الميِّتِ، ولم يَرِدْ له ذكْرٌ في الآيةِ، ولا ظهَر مَعْناه في الكَلامِ، لكنَّ القَرينةَ بيَّنتْ أنَّ المُرادَ به الميِّتُ؛ لأنَّها في المَواريثِ وتَوْزيعِ التَّرِكَةِ، ولا تَتعلَّقُ التَّرِكَةُ إلَّا بميِّتٍ.
اسْتِعمالُ ضَميرِ المُخاطَبِ معَ غيرِ المُشاهَدِ:
الأصْلُ في المُخاطَبِ أنْ يكونَ مُشاهَدًا، لكنْ يَجوزُ اسْتِعمالُ ضَميرِ المُخاطَبِ معَ غيرِ المُشاهَدِ في حالَتينِ:
أ- أنْ يكونَ ذلك المُخاطَبُ مُسْتحضَرًا في القلْبِ وإنْ لم يكنْ مُشاهَدًا، كقولِك: "لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبْحانَكَ إنِّي كنتُ منَ الظَّالِمينَ"؛ فالضَّميرُ "أنت" والكافُ في "سبحانكَ" تَعودُ على اللهِ سُبحانَه، معَ أنَّه لم يرِدْ ذكْرُه في الكَلامِ، لكنَّ اسْتحضارَ المُؤمِنِ له بقلْبِه يُغنِي عن سبْقِ ذكْرِه.
ب- قَصْدُ التَّعْميمِ، وذلك بأنْ تُوجِّه كَلامَك بصِيغةِ المُخاطَبِ معَ أنَّك لا تقصِدُ مُخاطَبًا بعَينِه، بل كلَّ مَنْ يَصحُّ أنْ يدخُلَ في هذا الخِطابِ. وذلك كقَولِه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] ؛ فإنَّ الضَّميرَ في "تَرى" لا يَتوجَّهُ إلى مُخاطَبٍ بعَينِه، بل هو خِطابٌ صالِحٌ لكلِّ مَنْ يَجوزُ له الدُّخولُ فيه، فكأنَّ المَعْنى: ولو تَرى أيُّها الصَّالِحُ لهذا الحَديثِ...؛ أخرَج الكَلامَ في صُورةِ الخِطابِ، مع إرادَةِ العُمومِ، تَنْبيهًا إلى تَقْطيعِ حالِهم مِن تَنْكيسِ الرُّؤوسِ والخَجلِ مِن أهْوالِ يومِ القِيامَةِ، وبَيانًا أنَّها بلَغتِ الغايةَ في الظُّهورِ، بحيثُ لا تَخْفى على أحدٍ، ولا تَختصُّ بها رُؤيةُ راءٍ، بل كلُّ مَنْ يَتأتَّى منه الرُّؤيةُ يدخُلُ في الخِطابِ.
ومنه قولُ المُتنبِّي: الطويل
إذا أنتَ أكْرَمْتَ الكريمَ ملَكتَهُ
وإنْ أنتَ أكرمْتَ اللَّئيمَ تَمرَّدا
فليس قصْدُ المُتَنبِّي تَوجيهَ الكَلامِ إلى أحدٍ، وإنَّما يُريدُ تَعميمَ ذلك، وهُو أنَّ اللَّئيمَ متى أكرَمه أحدٌ تمرَّدَ عليه وأنْكَر فضْلَه وإحْسانَه [233] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 109)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 112). .

انظر أيضا: