موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: اخْتيارُ اسمِ الإشارَةِ في تَعْريفِ المُسنَدِ إليه


الأصْلُ في اسمِ الإشارَةِ أنْ يُستَخدمَ في تَعْيينِ ما لا يُعرَفُ اسْمُه ولا وصْفُه، تقولُ: بِعْني هذا، تُريدُ: هذا الشَّيءَ الَّذي لا تَعلَمُ اسمَه، كما أنَّ الأصْلَ في الاسْتِخدامِ اللُّغويِّ لتلك الأسْماءِ أنَّ "هذا، هذه، هاتان، هذان، هؤلاء، ذا، ذي، ته، ..." إنَّما هي للقَريبِ، وأنَّ "ذلك، ذاك، تِلك، أولئك" للبَعيدِ. وعلى هذا يَخْتلِفُ الغَرَضُ مِنِ اسْتخدامِ المُتكلِّمِ لاسمِ الإشارَةِ في التَّعبيرِ عنِ المُسنَدِ إليه؛ فمِن دَواعي ذلك:
1- تَعْظيمُ دَرَجةِ المُسنَدِ إليه بالقُرْبِ، كقَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ؛ فالإشارَةُ إليه بالقُربِ تُفيدُ قُربَه مِنَ المُتلقِّي، وسُهولةَ أخذِه لمَنْ أراد الهِدايَةَ الَّتي جاءت بعدَه، فهُو سهْلُ المأخَذِ، عَظيمُ المَنْزِلةِ.
2- تَعْظيمُ دَرَجةِ المُسنَدِ إليه بالبُعْدِ، كقَولِه تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ؛ فالإشارَةُ إليه باسمِ الإشارَةِ للبَعيدِ تُفيدُ أنَّه في مَنْزِلةٍ أخرى دُونَ سائِرِ الكُتبِ، فهُو بَعيدٌ عنِ العَينِ لعُلوِّه وسُموِّه. وقد ناسَب ذلك لأنَّ الآيةَ في مَحلِّ الإعْجازِ والتَّحدِّي، وتَبرِئةِ القُرآنِ مِن أنْ يكونَ فيه شُبْهةٌ أو شكٌّ.
3- تَحْقيرُ المُسنَدِ إليه بالقُربِ، كما أراد المُشرِكونَ أنْ يُحقِّروا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 3] ، أيْ: هذا الَّذي تَرونَه تَزدَريه أعيُنُكم بَشَرٌ مِثلُ سائِرِ البَشَرِ.
4- تَحْقيرُ المُسنَدِ إليه بالبُعدِ، كقَولِه تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 1 - 2] ، وصَفه باسمِ الإشارَةِ "ذلك"؛ ليدُلَّ على أنَّه بَعيدٌ عن سَمْتِ المُؤمنينَ، تَنحطُّ رُتبتُه عن مَنْزِلةِ الأبْرارِ المُقرَّبينَ.
5- التَّعجُّبُ والاسْتِغرابُ، كقولِ الشَّاعِرِ: البسيط
كم عاقِلٍ عاقِلٌ أعْيَتْ مَذاهِبُهُ
وجاهِلٍ جاهِلٌ تَلقاهُ مَرْزوقَا
هذا الَّذي ترَكَ الأوْهامَ حائِرةً
وصيَّرَ العالِمَ النِّحريرَ زِنْديقَا [236] (عاقل) الثَّانِي صفة لـ(عاقل) الأوَّلِ، بِمَعْنى كَامِل الْعَقلِ متناهٍ فِيهِ، وأعيَتْ مذاهِبُه: أَعْجَزَتْه وصعُبَت عَلَيْهِ طُرُقُ مَعايشِه، والنِّحريرُ: الحاذِقُ الماهِرُ الْعَاقِلُ المجرِّبُ المتقِنُ الفَطِنُ الْبَصِيرُ بِكُلِّ شَيْءٍ. والزِّنديقُ: من لَا يُؤمِنُ بِالآخِرَةِ وبالرُّبوبيَّةِ، أَو مَن يُبطِنُ الْكُفْرَ ويُظْهِرُ الْإِيمانَ. ينظر: ((معاهد التنصيص على شواهد التلخيص)) لعبد الرحيم العباسي (1/ 148).
فاسْتِخدامُ اسمِ الإشارَةِ "هذا" أفاد الاسْتِغرابَ وتَمكُّنَ العجَبِ مِن قلْبِ المُتكلِّمِ وعقلِه.
6- كَمالُ العِنايةِ بالمُسنَدِ إليه وتَمْييزُه أتمَّ تَمْييزٍ، كقولِ الفَرَزْدقِ في عليٍّ زَيْنِ العابِدينَ: البسيط
هذا الَّذي تَعْرِفُ البَطحاءُ وَطأتَهُ
والبيْتُ يَعرِفُه والحِلُّ والحرَمُ
هذا ابنُ خيْرِ عِبادِ اللهِ كلِّهِمِ
هذا التَّقيُّ النَّقيُّ الطَّاهِرُ العلَمُ
هذا ابنُ فاطِمةٍ إنْ كُنتَ جاهِلَه
بجَدِّهِ أنْبياءُ اللهِ قد خُتِموا
وليس قولُك مِن هذا بِضائِرِهِ
العُرْبُ تَعرِفُ مَن أنْكرْتَ والعجَمُ
7- التَّعْريضُ بغَباوَةِ المُخاطَبِ، وأنَّه لا يَفْهمُ غيرَ المَحْسوسِ، كقولِ الفَرَزْدَقِ: الطويل
أولئك آبائي فَجِئْني بِمِثْلِهم
إذا جمَعتْنا يا جَريرُ المَجامِعُ
فأشار بأولئك ليُبيِّنَ له أنَّ هؤلاء الَّذين سبَق أنْ ذكَرهم الشَّاعرُ مُفاخِرًا بِهم، هم آباؤُه الَّذينَ يَنتسِبُ إليهم، إنْ كان لدى المُخاطَبِ فهمٌ يُحِسُّ به، وإلَّا لَما تَطاوَل عليهم ولا هَجاهم [237] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 174)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 112). .

انظر أيضا: