الموسوعة العقدية

الفرعُ الثامنُ: مِن فَضائِلِ شَهادةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: أنَّها أفضَلُ ما ذُكِرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ به، وأثقَلُ شَيءٍ في مِيزانِ العَبدِ يَومَ القِيامةِ

عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قَديرٌ، في يومٍ مائِةَ مَرَّةٍ، كانت له عَدْلَ عَشرِ رِقابٍ، وكُتِبَت له مائةُ حَسَنةٍ، ومُحِيَت عنه مائةُ سَيِّئةٍ، وكانت له حِرزًا مِنَ الشَّيطانِ يَومَه ذلك حتَّى يمسِيَ، ولم يأتِ أحَدٌ بأفضَلَ مِمَّا جاء به إلَّا أحَدٌ عَمِلَ أكثَرَ مِن ذلك )) [640] أخرجه البخاري (3293) ومسلم (2691).
وعن أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَمِنَ الحَسَناتِ لا إلهَ إلَّا اللهُ؟ قال: ((هي أفضَلُ الحَسَناتِ)) [641] أخرجه مطولاً أحمد (21487) واللفظ له، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (202). صَحَّحه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3162)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((الأمالي المطلقة)) (129)، وحَسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21487) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ نُوحًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال لابنِه عندَ مَوتِه: آمُرُك بلا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ السَّمَواتِ السَّبعَ والأرَضِينَ السَّبعَ لو وُضِعَت في كِفَّةٍ، ووُضِعَت لا إلهَ إلَّا اللهُ في كِفَّةٍ؛ رَجَحَت بهِنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولو أنَّ السَّمَوات السَّبعَ، والأَرَضينَ السَّبعَ كُنَّ حَلْقةً مُبهَمةً، قَصَمْتُهنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ )) [642] أخرجه مطولاً أحمد (6583) واللفظ له، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (548)، والحاكم (154). صححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (426)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (809(، وصحَّح إسنادَه الحاكِمُ، وابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (1/112)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/396)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/87)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6583). .
وقال سُلَيمانُ آل الشَّيخِ: (قَولُه: ((مالت بهِنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ))، أي: رجَحَت عليهنَّ؛ وذلك لِما اشتمَلَت عليه من توحيدِ اللهِ الذي هو أفضَلُ الأعمالِ، وأساسُ المِلَّةِ، ورأسُ الدِّينِ، فمن قالها بإخلاصٍ ويقينٍ، وعَمِلَ بمُقتضاها ولوازِمِها، واستقام على ذلك؛ فهو من الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هم يحزنونَ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فَصْلت: 30 - 32] ) [643] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 42). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ سيُخَلِّصُ رجُلًا مِن أُمَّتي على رُؤوسِ الخلائِقِ يومَ القيامةِ، فيَنشُرُ عليه تِسعةً وتِسعينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البَصَرِ، ثمَّ يَقولُ: أتُنكِرُ مِن هذا شيئًا؟ أظلَمَك كتَبَتي الحافِظونَ؟ فيقولُ: لا يا رَبِّ، فيقولُ: أفلَكَ عُذرٌ؟ فيقولُ: لا يا رَبِّ، فيَقولُ: بلى، إنَّ لك عِندَنا حَسَنةً؛ فإنَّه لا ظُلْمَ عليك اليومَ، فتَخرُجُ بِطاقةٌ فيها: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، فيَقولُ: احضُرْ وَزْنَك، فيَقولُ: يا رَبِّ، ما هذه البِطاقةُ مع هذه السِّجِلَّاتُ؟! فقال: إنَّك لا تُظلَمُ، قال: فتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ، والبِطاقةُ في كِفَّةٍ، فطاشت السِّجِلَّاتُ، وثَقُلَت البِطاقةُ، فلا يَثقُلُ مع اسمِ اللهِ شَيءٌ )) [644] أخرجه الترمذي (2639) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994) صَحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (225)، والحاكِمُ على شَرطِ مسلمٍ في ((المستدرك)) (9)، وابن الملقِّن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/ 595). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (مَن كَرَّر التَّوبةَ المذكورةَ، والعَودَ للذَّنبِ، لا يُجزَمُ له أنَّه قد دخل في معنى هذا الحديثِ، وأنَّه قد يَعمَلُ بعد ذلك ما شاء، لا يُرجى له أن يكونَ مِن أهلِ الوَعدِ، ولا يُجزَمُ لمعَيَّنٍ بهذا الحُكمِ، كما لا يُجزَمُ في حَقِّ مُعَيَّنٍ بالوعيدِ، كسائِرِ نُصوصِ الوَعدِ والوَعيدِ؛ فإنَّ هذا كقَولِه: من فَعَل كذا دَخَل الجنَّةَ، ومَن فَعَل كذا دخَلَ النَّارَ، لا يُجزَمُ لمعَيَّنٍ، لكِنْ يُرجى للمُحسِنِ، ويخافُ المسيءُ.
ومِن هذا البابِ حَديثُ البِطاقةِ التي قَدْرُ الكَفِّ فيها التَّوحيدُ، وُضِعَت في الميزانِ فرجَحَت على تلك السِّجِلَّاتِ مِن السَّيِّئاتِ. وليس كُلُّ من تكَلَّم بالشَّهادتينِ كان بهذه المنزِلةِ؛ لأنَّ هذا العَبدَ صاحِبَ البِطاقةِ كان في قَلْبِه مِنَ التَّوحيدِ واليَقينِ والإخلاصِ ما أوجَبَ أنْ عَظُم قَدْرُه حتَّى صار راجِحًا على هذه السَّيِّئاتِ.
ومِن أجلِ ذلك صار الْمُدُّ مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أفضَلَ مِن مِثْلِ جَبَلِ أحُدٍ ذَهَبًا مِن غَيرِهم.
ومن ذلك حَديثُ البَغِيِّ التي سَقَت كَلْبًا فغُفِرَ لها؛ فلا يُقالُ في كُلِّ بَغِيٍّ سَقَت كَلبًا: غُفِرَ لها؛ لأنَّ هذه البَغِيَّ قد حَصَل لها مِنَ الصِّدقِ والإخلاصِ والرَّحمةِ بخَلْقِ اللهِ ما عادَلَ إثْمَ البَغْيِ، وزاد عليه ما أوجَبَ المغفِرةَ، والمغفِرةُ تحصُلُ بما يحصُلُ في القَلبِ مِنَ الإيمانِ الذي يَعلَمُ اللهُ وَحْدَه مِقدارَه وصِفَتَه.
وهذا يَفتَحُ بابَ العَمَلِ، ويجتَهِدُ به العبدُ أن يأتيَ بهذه الأعمالِ وأمثالِها مِن مُوجِباتِ الرَّحمةِ وعَزائِمِ المغفِرةِ، ويكونُ مع ذلك بيْن الخَوفِ والرَّجاءِ، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] ) [645] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (1/ 224). .
وقال الطِّيبي: (أفضَلُ الذِّكرِ: قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وهي الكَلِمةُ العُلْيا، وهي القُطبُ الذي يدورُ عليها رحى الإسلامِ، وهي القاعِدةُ التي بُنِيَ عليها أركانُ الدِّينِ) [646] يُنظر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) (5/ 1733). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (اعلَمْ أنَّ أشِعَّةَ لا إلهَ إلَّا اللهُ تبدِّدُ مِن ضَبابِ الذُّنوبِ وغُيومِها بقَدْرِ قُوَّةِ ذلك الشُّعاعِ وضَعْفِه، فلها نُورٌ، وتفاوُتُ أهلِها في ذلك النُّورِ قُوَّةً وضَعفًا لا يُحصِيه إلَّا اللهُ تعالى؛ فمِنَ النَّاسِ مَن نُورُ هذه الكَلِمةِ في قَلْبِه كالشَّمسِ، ومِنهم مَن نُورُها في قَلْبِه كالكوكَبِ الدُّرِّيِّ، ومنهم مَن نُورُها في قَلْبِه كالمِشعَلِ العَظيمِ، وآخَرُ كالسِّراجِ المضِيءِ، وآخَرُ كالسِّراجِ الضَّعيفِ؛ ولهذا تَظهَرُ الأنوارُ يومَ القيامةِ بأيمانِهم، وبَيْنَ أيديهم، على هذا المِقدارِ، بحسَبِ ما في قُلوبِهم مِن نُورِ هذه الكَلِمةِ؛ عِلمًا وعَمَلًا، ومَعرِفةً وحالًا.
وكلَّما عَظُم نُورُ هذه الكَلِمةِ واشتَدَّ، أحرَقَ مِنَ الشُّبُهاتِ والشَّهواتِ بحسَبِ قُوَّتِه وشِدَّتِه، حتَّى إنَّه رُبَّما وَصَل إلى حالٍ لا يُصادِفُ معها شُبهةً ولا شَهوةً ولا ذَنبًا، إلَّا أحرَقَه، وهذا حالُ الصَّادِقِ في توحيدِه، الذي لم يُشرِكْ باللهِ شَيئًا) [647] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 338 - 341). .
وقال ابن حجر الهيتمي في شرحِ حديثِ: ((من لَقِيَني بقُرابِ الأرضِ خَطيئةً لا يُشرِكُ بي شيئًا، لَقِيتُه بمِثْلِها مَغفِرةً )) [648] أخرجه مسلم (2677) : (إنَّ الإيمانَ شَرطٌ في مَغفِرةِ ما عدا الشِّركَ؛ لأنَّه الأصلُ الذي ينبني عليه قَبولُ الطَّاعةِ وغُفرانُ المعصيةِ، وأمَّا الشِّركُ فلا أصلَ ينبني عليه ذلك: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] فالسَّبَبُ الأعظَمُ للمَغفرةِ هو التوحيدُ، فمن فَقَده فقد فقَدَها، ومن أتـى به ولو وَحْدَه بأن لم يكُنْ له عَمَلُ خَيرٍ غَيرُه؛ فقد أتى بأعظَمِ أسبابِها، لكِنَّه تحت المشيئةِ، وعلى كُلٍّ فمآلُه إلى الجنَّةِ، وأمَّا من كَمَل توحيدُه وإخلاصُه، وقام بشرائطِه وأحكامِه؛ فإنَّه يُغفَرُ له ما سَلَف من ذنوبِه، ولا يدخُلُ النَّارَ إلَّا لتحِلَّةِ القَسَمِ) [649])) يُنظر: ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) (ص: 632). .
وقال سُلَيمانُ بنُ سحمان: (اعلَمْ -رَحِمَك اللهُ- أنَّ كَلِمةَ الإخلاصِ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، هي الكَلِمةُ التي قامت بها الأرضُ والسَّمَواتُ، وفَطَر اللهُ عليها جميعَ المخلوقاتِ، وعليها أُسِّسَت المِلَّةُ، ونُصِبَت القِبلةُ، ولأجْلِها جُرِّدَت سيوفُ الجِهادِ، وبها أمَرَ اللهُ جميعَ العبادِ؛ فهي فطرةُ اللهِ التي فطر النَّاسَ عليها، ومِفتاحُ عبوديَّتِه التي دعا الأُمَمَ على ألسُنِ رُسُلِه إليها، وهي كَلِمةُ الإسلامِ، ومفتاحُ دارِ السَّلامِ، وأساسُ الفَرضِ والسُّنَّةِ) [650] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/ 350). .
وقال ابنُ باز: (لا إلهَ إلَّا اللهُ، هي أفضَلُ الكلامِ بَعْدَ القُرْآنِ، هي أحَبُّ الكَلامِ إلى اللهِ، وأفضَلُ الكَلامِ، وهي كَلِمةُ الإخلاصِ، وهي أوَّلُ شَيءٍ دَعَت إليه الرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأوَّلُ شَيءٍ دعا إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ قال لقَومِه: ((قولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ تُفلحوا )) [651] أخرجه ابن خزيمة (159)، وابن حبان (6562)، والحاكم (4219) من حديث طارق بن عبدالله المحاربي رضي الله عنه. صححه ابن حبان، وابن حزم في ((المحلى)) (9/112)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/680) ، هي كَلِمةُ الإخلاصِ، كَلِمةُ التَّوحيدِ) [652] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 33). .
الفرعُ التاسعُ: مِن فَضائِلِ شَهادةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: أنَّه لا يَحجُبُها شَيءٌ دونَ اللهِ عزَّ وجَلَّ.
عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِنكم من أحدٍ يتوضَّأُ فيُسبِغُ الوُضوءَ، ثمَّ يقولُ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورَسولُه، إلَّا فُتِحَت له أبوابُ الجنَّةِ الثَّمانيةُ يَدخُلُ من أيِّها شاء )) [653] أخرجه مسلم (234). .
قال عبدُ العزيزِ بنُ مَعمَرٍ النَّجْديِّ مُعَلِّقًا على هذا الحديثِ: (هذا فيه الإتيانُ بالشَّهادتينِ المتضَمِّنَتينِ طَهارةَ القَلبِ بَعْدَ الوُضوءِ الذي هو طَهارةُ الظَّاهِرِ؛ لتَتِمَّ له الطَّهارتانِ الظَّاهرةُ والباطِنةُ، وهذا غايةُ الكَمالِ) [654] يُنظر: ((منحة القريب المجيب)) (2/ 680). .

انظر أيضا: